أقدمت الولايات المتحدة مؤخراً على عدد من التحركات السياسية والدبلوماسية تجاه الصين والهند وإيران، في سبيل احتواء التطورات الاستراتيجية الحاصلة في المنطقة لغير صالح الأهداف الاستراتيجية الخارجية الأمريكية. وكشفت الحرب الروسية الأوكرانية وتطوراتها عن تحولات استراتيجية حساسة تمس بمكانة الولايات المتحدة في ميزان القطبية المتفردة المتأرجحة اليوم. وقد يكون إعادة التقييم الغربي لهذه الحرب ونتائجها حتى الآن من بين الأسباب المباشرة للتحركات السياسة الأمريكية تجاه تلك البلدان، لكن هل هناك فرصة أمام الولايات المتحدة لتحقيق اختراق حقيقي في سياستها تجاهها؟
بعد مرور أكثر من عام على انفجار الحرب الروسية الأوكرانية، بتأجيج أمريكي غير خفي، بدأت تظهر التقديرات الأمريكية والأوروبية لمستقبلها على غير ما كان مأمولاً.
تؤكد التقارير المتواترة استحالة تحقيق نصر حاسم آني في هذه الحرب، لصالح أحد الأطراف، رغم الدعم الأمريكي الغربي المفتوح لأوكرانيا. وذهبت التقديرات إلى أنه من المستبعد حسم نتائج المعركة، ليس الآن فقط، بل حتى مع استمرار المعارك لأمد بعيد. وفي ظل استنزاف الموارد المالية الأمريكية والغربية مع استمرار هذه الحرب، تبدو النتائج المرجوة بإضعاف الطرف الروسي على المدى البعيد ذات كلفة كبيرة مقارنة بالخسائر. وتذهب مؤسسة راند الأمريكية البحثية إلى أبعد من ذلك، اذ تتنبأ بأنه في حالة إطالة مدة الحرب يمكن لروسيا اللجوء إلى قدراتها النووية، أو بإمكانية تمدد الحرب مع حلف الناتو.
وكانت روسيا قد لجأت إلى استراتيجية التصعيد النووي من أجل خفض التصعيد، عندما أكد بوتين احتفاظ بلاده بالحق في استخدام السلاح النووي، إذا واجهت تهديداً وجودياً، ونجحت تلك الاستراتيجية بالفعل في ردع تدخل مباشر لحلف الناتو في الحرب. ودعت «راند» في توصياتها، إلى تبني استراتيجية لإنهاء الحرب، وهو التوجه ذاته الشائع الآن في أروقة صنع القرار الأمريكية والغربية. وقال الرئيس بايدن، في مقال نشر له العام الماضي في صحيفة نيويورك تايمز، إن المفاوضات هي الطريق الأمثل لإنهاء هذه الحرب.
ورغم ذلك يبدو التوصل إلى حل عبر المفاوضات في هذه الأزمة بعيداً عن الواقع، لذلك يدرج الآن الحديث عن هدنة، والتي تعني وقفاً طويلاً لإطلاق النار، من دون تغيير كبير في معطيات التطورات الميدانية الموجودة على الأرض. إن ذلك يفسر ثلاثة أمور، الأول توجه أوكرانيا إلى توسيع دائرة اعتداءاتها داخل روسيا، لإشعار بوتين والروس بكلفة استمرار الحرب، والثاني الدعم الأمريكي والغربي لأوكرانيا في الأيام الأخيرة لتحقيق تقدم على الأرض لضمان وضع مقبول لأوكرانيا في حال الوصول إلى هدنة، والثالث محاولة الولايات المتحدة الالتفاف على حلفاء روسيا وتحقيق تفاهمات سياسية معهم، كنوع من الضغط على روسيا، للوصول إلى الهدنة المنظورة.
في تطور نوعي، قام انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي مؤخرا بزيارة للصين، وتعد الزيارة الأرفع تمثيلاً لمسؤول أمريكي في عهد إدارة بايدن. وتأتي ضمن سلسلة من الزيارات لمسؤولين أمريكيين للصين خلال الأشهر الأخيرة الماضية، آخرها جاء الشهر الماضي لكل من مدير وكالة الاستخبارات ومستشار الأمن القومي. أكد بلينكن خلال الزيارة أنها تأتي لوضع آليات لإدارة الأزمة مع الصين. ورغم أن الزيارة لم تحرز نتائج ملموسة، فإن الطرفين أثارا القضايا الخلافية وتعاهدا على إجراء مزيد من الاتصالات، في إشارة الى عدم رغبة الولايات المتحدة بالذهاب بعيداً في الصدام مع الصين. وفي سياق متصل، استقبلت الولايات المتحدة ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي، ورغم أنها ليست زيارة نادرة، فقد قام بمثل هذه الزيارة عدة مرات، الا أن زيارته هذه جاءت في ظروف استثنائية، وابرم خلالها صفقة لمشاركة التكنولوجيا والإنتاج المشترك لمحركات الطائرات العسكرية، والتي طال انتظارها. وفي تطور ثالث، حققت الولايات المتحدة تقدماً ملحوظاً في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، في إطار الحديث عن مجموعة من التفاهمات المتبادلة، رغم اعتبار الولايات المتحدة قبل أشهر قليلة أن الاتفاق مع إيران قد مات.
ورغم أن البلدان الثلاثة سابقة الذكر تعد مهمة لروسيا، وخصوصاً في ظل تطور علاقتها معها خلال الحرب الروسية الأوكرانية، ويعد التفاهم معها والتأثير عليها مهماً في رسم نتائج تلك الحرب، الا أن سياسة هذه البلدان الآنية تجاه روسيا أو الولايات المتحدة تعكس سياسة تراكمية تكونت عبر السنوات، ولا تتعلق فقط بتلك الحرب الدائرة، وإن أسهمت هذه الحرب بإبرازها. ليس من السهل تغيير واقع العلاقة الأمريكية التنافسية والصراعية مع الصين، الا أنه بالإمكان للولايات المتحدة إدارة الصراع بحكمة لا توصله حد التصادم، غير المرغوب فيه من قبل جميع الأطراف، وهو الأمر الذي يتطلب مراجعة أمريكية لسياستها مع الصين، ولا يضمن تغيير سياسة الصين مع روسيا، الا في حدود المصالح التي تحددها بكين.
لم تنجح أميركا خلال السنوات الماضية في كسر سياسة الحياد التي تتبناها الهند، وهي الدولة التي تعد مهمة للولايات المتحدة، وخصوصاً اليوم في ظل التفاف السياسة الخارجية الأمريكية تجاه آسيا، لمواجهة الصين. وتعد الهند، من وجهة النظر الأمريكية الأقدر من حيث الإمكانيات على التصدي لطموحات الصين في المنطقة، والأنسب من حيث طبيعة العلاقة التنافسية والصراعية مع الصين لشغل هذا الدور. إلا أن ذلك يبدو بعيداً عن التحقق لعدة أسباب: فالعلاقات الهندية الأمريكية تبدو جيدة من حيث الشكل لا المضمون، إذ تعاني هذه العلاقة في الواقع من الفتور، في ظل سياسة أمريكية استهترت عبر السنوات بمصالح الهند في مجالات حيوية؛ تسعى الهند، رغم خلافاتها مع الصين لحلها سلمياً وضمن التفاهم لا الصدام، كما تتمنى الولايات المتحدة؛ وتعتمد الهند على روسيا في منظومتها العسكرية، وزاد اعتمادها عليها في مجال الطاقة خلال الحرب الروسية الأوكرانية، والتي يصعب على أي طرف بما فيها الولايات المتحدة توفير البديل للهند.. وقد جادل أحد كتاب مجلة «الفورين أفيرز» الأمريكية الذائعة الصيت أن رهان أمريكا على الهند سيئ، لأنها لن تقف بجانب واشنطن في حال صدامها مع الصين، ما لم تتعرض مصالحها للتهديد، على حد تعبير الكاتب، كما أنها لن تتخلى عن علاقاتها مع روسيا، طالما حققت تلك العلاقات مصالحها.
أما إيران التي عانت منذ قيام الثورة الإسلامية من سياسات واشنطن ضدها فتؤيد دون تردد التبدل الحاصل في النظام الأحادي الدولي، ولن يعد الاتفاق أو التفاهمات بشأن ملفها النووي بمبادرة أمريكية طريقاً مجدياً إن استخدم في مساومتها في ظل علاقتها مع روسيا. إذ نجحت إيران بفعل علاقاتها مع الصين وروسيا في كسر منظومة الحصار الأمريكية والغربية التي فرضت عليها.
رغم أنها ليست وليدة اللحظة، فإن الحرب الروسية الأوكرانية عمقت العلاقات الصينية الروسية في مواجهة الغرب؛ وزادت من تغلغل الوجود والدور الصيني في الشرق الأوسط؛ ورسخت من علاقات إيران مع روسيا والصين، الأمر الذي زاد من قدرة إيران على الصمود والتحدي للعقوبات الأمريكية الغربية، كما أسهمت هذه الحرب أيضاً في تحرر قوى شرق أوسطية من الالتزام بسياسات واشنطن، وفتحت المجال لتحالفات أوسع.
{ كاتبة وباحثة من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك