على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي أنشئ عام 1949 في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية كان –ولا يزال– الضمانة الأساسية لأمن الدول الأوروبية، فإن تلك الدول لايزال يراودها حلم تأسيس هوية أمنية أوروبية، صحيح أن الاتحاد الأوروبي انطلق منذ تأسيسه كتجمع اقتصادي «المنظمة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951» التي ضمت ست دول آنذاك، بيد أن التحديات التي واجهتها أوروبا خلال العقود الماضية قد حدت بتلك الدول إلى التفكير غير ذي مرة في تأسيس هوية أمنية أوروبية، وإذا كان التحدي يخلق الاستجابة، فإن التساؤل هو في ظل التحديات الأمنية الهائلة التي أوجدتها الأزمة الأوكرانية على الأمن الأوروبي، فهل تنجح هذه الدول في تأسيس تلك الآلية ؟ الإجابة عن ذلك التساؤل هي جل هذا المقال.
شهدت السنوات الخمس الماضية العديد من المقترحات الأوروبية التي استهدفت تحقيق الأمن الذاتي الأوروبي سواء على الصعيد الثنائي أو الجماعي ومن ذلك توقيع 23 دولة أوروبية وثيقة التعاون الدفاعي في نوفمبر 2017 وتضمنت 20 التزاماً منظماً للتعاون في المجال الدفاعي بين تلك الدول، إعلان فرنسا في يونيو 2018 تأسيس قوة أوروبية مكونة من 9 دول لمواجهة الأزمات خارج الأراضي الأوروبية وقد أطلق عليها «مبادرة التدخل الأوروبية»، مقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر 2018 بتأسيس الجيش الأوروبي الموحد، معاهدة التعاون والاندماج بين فرنسا وألمانيا في يناير 2019 والتي استهدفت التكامل في مجالات عديدة من بينها الأمن الداخلي والخارجي، وصولاً إلى اعتماد المجلس الأوروبي أول وثيقة استراتيجية شاملة في مجال الأمن والدفاع خلال اجتماع المجلس الأوروبي في مارس 2022 والتي أطلق عليها «البوصلة الاستراتيجية» وهي بمثابة الكتاب الأبيض الأول للدفاع الأوروبي، وتستهدف تلك الوثيقة تعزيز السياسات الأمنية والدفاعية الأوروبية بحلول عام 2030 وتنطلق تلك الوثيقة من ثلاثة معطيات وهي تحديد أوجه الضعف الأوروبي في مجال الدفاع الذاتي، ثم تحليل البيئة الأمنية الاستراتيجية التي يستهدفها الأمن الذاتي الأوروبي وأخيراً سبل تحقيق ذلك الأمن الجماعي لتلك الدول ، وترتكز الوثيقة على أربعة أسس هي القدرة على التصرف ومضمونها استهداف بناء قوة أمنية ذاتية بحلول 2025 ويكون لديها القدرة على التدخل وإجراء المناورات المشتركة والقدرة على التصرف لدرء التهديدات، والأساس الثاني هو التأمين من خلال القدرة على مواجهة تهديدات الأمن البحري والفضاء السيبراني والتهديدات الهجينة، أما الأساس الثالث فهو الاستثمار ومفاده دعم الابتكار في مجال الدفاع وخاصة التكنولوجيا العسكرية، ويتمثل الأساس الرابع والأخير في العمل ضمن الشراكات مع حلف الناتو ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الأخرى بالإضافة إلى الشراكات الثنائية.
ومع أهمية ما سبق ووجاهة ووضوح الأهداف الدفاعية التي حددها الاتحاد الأوروبي ضمن تلك الوثيقة المهمة التي جاءت ضمن آلية التدرج في تحقيق الأهداف، والتي دأب عليها الاتحاد الأوروبي، فإن التساؤل هو هل يمكن لأوروبا بالفعل تأسيس آلية أمن ذاتي؟ في تقديري أن هذه الأهداف بالرغم من كونها طموحة وتأتي كاستجابة للتهديدات الأمنية غير المسبوقة التي تواجه الدول الأوروبية، ولكن الأمر ربما يستغرق بعض الوقت بما يتجاوز المدى الزمني الذي نصت عليه تلك الوثيقة لخمسة أسباب أولها: آلية اتخاذ القرارات في الاتحاد الأوروبي والتي تتطلب الإجماع وهو ما يقف حجر عثرة أمام اتخاذ قرارات استراتيجية، وثانيها: اختلاف خطط الدفاع والتسليح بين الدول الأوروبية ذاتها، وكذلك تباين الالتزام الأوروبي داخل حلف الناتو ذاته الذي طالب أمينه العام غير ذي مرة بضرورة التزام الدول الأوروبية بتخصيص 2% من ناتجها القومي لأغراض الدفاع، وهو ما لم تلتزم به كل الدول الأوروبية أعضاء الناتو حتى الآن، وثالثها: حدود الاتصال والانفصال ما بين أي مقترح أمني أوروبي وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، حيث يلاحظ أن كل المقترحات التي أثيرت تضمنت أنها تتكامل مع التزام الدول الأوروبية داخل حلف الناتو تكاملاً لا تعارضاً، وينطلق ذلك من حقيقة مفادها أن هناك 22 دولة أوروبية تتداخل عضويتها ما بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ورابعها: التباين بين رؤى ما يمكن أن نطلق عليه الدول المحورية داخل المنظومة الأوروبية، ففي أعقاب خروج بريطانيا من تلك المنظومة «البريكست»، ثمة تنافس وتباين فرنسي -ألماني، ففي الوقت الذي تذهب فيه فرنسا إلى طموح أبعد مدى وهو تأسيس الجيش الأوروبي الموحد فإن ألمانيا لا تزال ترى أن حلف الناتو هو المظلة الأمنية الجماعية الأقوى والأهم للدول الأوروبية، بل وتعارض تحول الاتحاد الأوروبي إلى قطب عالمي، ففي كلمة له أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورج الفرنسية في 9 مايو 2023 قال المستشار الألماني أولاف شولتس: «إن من يتعلق بحلم القوة الأوروبية العالمية من باب الحنين إلى الماضي، ومن يخدم خيالات القوة العظمى الوطنية، عالق في الماضي»، وقال: «إن الدول الأخرى ستكون محقة في عدم تقبلها لنظام عالمي ثنائي أو ثلاثي الأقطاب تهيمن فيه قوتان أو ثلاث قوى فقط كما كان في حقبة الحرب الباردة»، وخامسها: خبرات الدول الأوروبية المتواضعة في التدخل في الأزمات مقارنة بحلف الناتو الذي لا يزال هو أداة الردع الأساسية لتلك الدول ومن ثم عدم وجود إجماع بين الدول الأوروبية ذاتها على فكرة البديل الأمني الذاتي.
وعلى الرغم من أن الحرب الأوكرانية قد مثلت تحدياً هائلاً للدول الأوروبية كافة وهو ما انعكس في معدلات الإنفاق الأوروبي غير المسبوقة على التسلح، بالإضافة إلى إعلان بعض من تلك الدول استراتيجيات للأمن القومي ومنها ألمانيا وذلك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية فإنه يبدو أن الطريق لا يزال طويلاً لنرى جيشاً أوروبياً موحداً، وهي قضية ذات دلالة بالنسبة للشركاء خارج القارة الأوروبية انطلاقاً من ثلاثة اعتبارات الأول: أنه إذا كان قرار إرسال قوات غربية لحسم الأزمات على غرار تحرير دولة الكويت عام 1991 كان منوطاً بموافقة جهة واحدة وهي الكونجرس الأمريكي فإن الأمر يبدو مختلفاً في الدول الأوروبية لأنه ستكون هناك حاجة لموافقة كل برلمانات هذه الدول على إرسال قوات بلادها للخارج، والثاني: أن أهمية الشراكات التي تطلقها القوى الكبرى والمنظمات مثل الاتحاد الأوروبي لا تكمن في أهميتها الاقتصادية فحسب بل في جوانبها الدفاعية أيضاً وقدرتها على أن تكون قوة ردع، والثالث: في ظل حرص دول الخليج العربي على تعزيز شراكاتها مع العديد من التكتلات في مناطق مختلفة من العالم مثل البريكس والآسيان وشنغهاي فإنه حال تحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة ردع، فإنه سوف يحظى بالأولوية ضمن ذلك الاهتمام.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك