صدر كتاب جديد يتناول قضية صحية تهم كل إنسان يعيش على سطح الأرض، ولكنه ليس أول كتاب يُنشر حول هذه القضية الحيوية الجامعة، فقد صدرت من قبل عدة كتب، كما نُشرت آلاف الأبحاث والمقالات التي سبرت غور هذه القضية بعمق ودقة وتفاصيل شديدة. وعلى الرغم من ذلك فتداعيات هذه القضية العميقة تخرج وتنكشف على السطح بين الحين والآخر وتحيي في قلوب الناس عامة، ونفوس الناس خاصة الذين عانوا من انعكاسات هذه القضية العصيبة صحياً واجتماعياً ذكريات مؤلمة لا يمكن نسيانها مهما طال الزمن وعفا عليها الدهر، فآثارها نُقشت في قلوبهم ونفوسهم، وأضرارها حُفرت في أعضاء أجسادهم واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فبعض الضحايا الذين وقعوا فريسة لهذا المرض النادر الغريب والمخيف مازالوا أحياء يروون قصتهم وآلامهم طوال حياتهم على الملأ، فلا يمكن تجاهلهم، أو غض الطرف عنهم وعن معاناتهم الدائمة منذ ولادتهم وحتى آخر دقيقة من حياتهم.
فقد صدر هذا الكتاب الجديد من إعداد «جينيفر فاندربس» (Jennifer Vanderbes) في الولايات المتحدة الأمريكية في 27 يونيو 2023 تحت عنوان: «الدواء الأعجوبة: الأسرار التاريخية لدواء الثاليدوميد في أمريكا وضحاياه المخفيين». وغلاف هذا الكتاب الذي يقع في 432 صفحة يؤشر بوضوح إلى حجم القضية وكبر المعاناة الإنسانية، حيث يتكون من صورة لطفلة في السادسة من عمرها، ولكنها منذ ولادتها كانت غير مكتملة الأطراف، فهي بدون ذراع كلياً، وبعض أصابع الرجل مفقودة فالجديد فعلاً في هذا الكتاب هو القصص التي لم ترو من قبل عن معاناة بعض الضحايا الأحياء من الشعب الأمريكي، نساءً وأطفالاً وشيوخاً، حيث إن الوثائق السابقة ركزت على الضحايا في دول ما وراء المحيط، وبالتحديد في بريطانيا وألمانيا وأستراليا وبعض الدول الأخرى.
فالمشهد الأول من قصة هذا الكتاب المؤلمة الحزينة يقع في عام 1959 عندما قامت شركة الأدوية «وليام ميريل» (William S. Merrell) في ولاية سِينْسِيناتي بتوزيع غير رسمي وغير مرخص من عينات مجانية من هذا الدواء السحري الجديد القادم من ألمانيا الغربية من شركة (Chemie Grünenthal)، والذي اكتسب شعبية واسعة في دول العالم الأخرى، حيث قامت بتقديم دواء الثاليدوميد خُفية ودون أنظار المعنيين بالترخيص للأدوية والعقاقير الجديدة، وسوَّقت له في المستشفيات وبين الأطباء بأنه مهدئ، ومسكن فاعل، ولا توجد له مخاطر أو أعراض جانبية، وكان الأطباء بسبب استخدام هذا الدواء في الكثير من الدول الأوروبية يعتقدون بأن الجهات المعنية بالترخيص حتماً ستوافق على استخدامه والسماح بتسويقه رسمياً بعد فترة قريبة جداً.
وأما المشهد الثاني فيفتح في سبتمبر عام 1960 على مكتب المسؤولين عن تراخيص الأدوية في أمريكا، وهو «إدارة الغذاء والدواء»، حيث تتم مراجعة كل المعلومات عن هذا الدواء الجديد الذي سينزل في أسواق أمريكا. وفي اللحظة الأولى قامت الطبيبة المعنية بالفحص عن سلامة استخدام الدواء وهي «فرانسيس كلسي» (Frances Kelsey) بإثارة الشكوك حوله وعن سلامة استعماله لعدم وجود الأدلة العلمية الكافية، وخاصة عندما عَلِمتْ بأن هذا الدواء قد يكون السبب في تشوهات وإعاقات جسدية وعضوية غريبة في المواليد الجدد في الدول التي سبقت أمريكا في الاستخدام. وبعد التدقيق والبحث أكثر في الأعراض الجانبية للدواء ومصداقية الوثائق المرفوعة لهم حول سلامة الدواء، قامت مع مختصين آخرين بمحاربة قرار السماح المرتقب لهذا الدواء، فواجهت حملة مضادة شرسة وعنيفة من قبل الشركات المتنفذة والقوية من أجل السماح باستخدامه، ولكن الحق كان أقوى عزيمة وصرامة في الرأي من الباطل من شركات الأدوية الجشعة التي يهمها فقط الربح السريع والكبير، فتم رفض استخدامه في الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا القرار الجريء والشجاع تجنب الملايين من الأمريكيين، وخاصة الأطفال الرضع شر السقوط في الوباء العضوي الجسدي الناجم عن تناول هذا العقار.
كما كشفت هذه الطبيبة الأمينة النقاب عن مخالفات وتجاوزات وخيانات كثيرة قامت بها شركات الأدوية وبعض الأطباء المأجورين عديمي الضمير بالنسبة لهذا الدواء، من دون علم الجهات الحكومية المعنية، حيث إن شركات الأدوية قامت لأكثر من خمس سنوات بتوزيع عينات من هذا الدواء لإجراء تجارب سريرية، حتى أن عدد المرضى الذين تناولوا الدواء من دون علمهم وموافقتهم، وخاصة من النساء الحوامل بلغ عشرات الآلاف والكثير منهن وضعن أطفالاً مشوهين وغير مكتملي الأعضاء، ولا توجد وثائق رسمية عن تناولهن لهذا الدواء.
والمشهد الثالث من قصة هذا الدواء الأعجوبة في الولايات المتحدة الأمريكية فنُزيح فيه الستار على صور الضحايا شبه البشرية الغريبة الذين عانوا منذ خروجهم إلى الحياة الدنيا حتى يومنا هذا، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ويحكي قصته الأليمة في هذه الحياة التي عاشها وهو معوق جسدياً، ومشوه خِلْقيا في بعض أعضاء رجله ويده وأصابعه نتيجة لإصابته بمرض نادر جداً هو (phocomelia).
وختاماً، فإن هذا الكتاب يُدعم عدة حقائق كتبتُ عنها في مقالات كثيرة سابقة، منها أن الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، وبالتحديد هنا شركات الأدوية والعقاقير لا تُعير أي اهتمامٍ بصحة الإنسان وسلامة بيئته، فهي تحاول بكل الطرق الرسمية وغير الرسمية والملتوية جمع المال وبأسرع وقتٍ ممكن، والثانية فإن تضحيات بعض البشر تؤتي أكلها مهما طال الزمن ولن تذهب سدى، وستُقدم ثماراً طيبة تقطفها الأجيال مهما ارتفعت شدة المعاناة، وزادت المضايقات والإغراءات، أما الثالثة فاحذروا من تناول الأدوية قبل التأكد من سلامتها والتعرف إلى أعراضها الجانبية، فمعظم الأدوية لها تأثيرات جانبية تختلف في حدتها وقوتها من إنسان إلى آخر.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك