في يوم عرفة من السنة العاشرة الهجرية، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حوالي 144 ألف حاج، وقف يخطب خطبته الثرية الجامعة المانعة التي وضع فيها الخلاصة والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، إذ يعد كثير من المؤرخين أن هذه الخطبة تُعد الوثيقة الأولى لحقوق الإنسان في تاريخ البشرية.
ترى ماذا قال رسول الله في ذلك اليوم المشهود؟
خطبة الوداع حوت الكثير من الأمور والمعارف والأسس، ولكن يصعب علينا هنا أن ننقل كل ما حوت تلك الخطبة، لذلك سنحاول أن نتطرق إلى بعض المبادئ والأسس التي حوتها، ومن يرغب في الاستزادة فإنه يمكن العودة إليها وقراءتها كاملة في كتب السيرة النبوية الكريمة.
حرمة النفس البشرية: قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»، يمكن أن نلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى ومع بداية خطبته حدد 3 أمور مهمة في حقوق الإنسان، وهي حرمة دم الإنسان، وحرمة ماله وعرضه، فماذا يعني ذلك؟
فإن تحدثنا عن الدماء، فإن هذا يعني بكل وضوح أنه ليس من حق أحد أن يقتل أحدًا أو أن يؤذيه أو يجرحه إلا بناء على قرار صادر من السلطات الحاكمة وتحت إجراءات محددة وواضحة، فعملية القتل ليست متعة ومزاجا، وإنما هي إجراءات قانونية تحددها السلطات القضائية فقط. لذلك فإن القاتل –في الإسلام– يقتل وهو حكم القصاص، فإن لم يكن الإجراء بهذه القساوة وبهذا الردع، فإن المجتمع سيصبح في حالة من الفوضى العارمة، تصور أنه لو أن كل شخص – قد – لا يعجبه شخص آخر أو اختلف معه في موقف معين قتله، ماذا يمكن أن يحدث في المجتمع؟
ليس ذلك فحسب، وإنما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان آخر «لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا». سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وهذا يعني مجرد التخويف، فقط التخويف، كأي نوع من التخويف حتى ولو كان الأمر بسيطا، فإن هذا الشخص يعد آثما، فهل يمكن أن يكون هذا الدين الذي هو بهذه الحساسية والاهتمام بالنفس البشرية مرتعًا للإرهاب؟
أما إن كنا نتحدث عن المال؛ فهذا يعني أنه ليس من حق أحد أن يأخذ المال من أي شخص إلا بناء على رضاه، فليس من حقك –مثلاً– أن تتفق مع شخص ما على إنجاز عمل مقابل مبلغ معين ثم بعد ذلك تزايد عليه وتزيد المبلغ، وليس من حقك أن تمنع رواتب العمالة الذين يعملون عندك بعد إنجاز العمل، وليس من حق العامل أن يأخذ مالاً ليس من حقه.
وليس من حق أحد أن يسرق خادم أحد أو أي عامل يعمل تحت إمرة هذا الشخص ويحول تأشيرته من دون رغبته إلى ملكية أخرى، لأن هذا العامل أو الخادمة جاءت بناء على طلب الشخص الأول وهو دفع من ماله ليجلب هذا العامل، فأي عملية تحويل من غير رغبة –يمكن– أن تعد عملية سرقة.
أما بالنسبة الى المال العام، فإن هناك الكثير من الأمور، ربما أولها وأبسطها أن تأخذ أي شيء من مكتب العمل حتى لو كان قلم رصاص، فهذا القلم ليس من حقك وإنما من حق المؤسسة التي تعمل فيها، وكذلك الرشوة والهدايا، فإن كانت هذه الأمور البسيطة تقع في خانة السرقة، فما بالنا إن تحدثنا عن الملايين التي تسرق؟ وكذلك يقع تحت خانة السرقة، سرقة الملكية الفكرية كأن تسرق أفكار شخص وتكتبها أو تنشرها باسمك وهي أصلاً نتاج شخص آخر.
ثم تأتي قضية الأعراض، هنا قاعدة نتعلمها من الحياة وهي (من يتعرض لعرض شخص فإنه يكشف عرضه هو للخدش)، وحوادث الحياة توضح كثيرا من هذه الأمور، من يتعدى على حرمة إنسان في زوجته أو ابنته أو ولده فإنه حتمًا سيقع طائلة نفس الحدث ومع أشخاص آخرين، سواء عاجلاً أو آجلاً، فالزنا والاغتصاب جرائم مجتمعية شخصية يجب أن يعاقب عليها القانون، وحتى التحرش الجنسي واللفظي وكل ذلك يقع في نطاق حرمة الأعراض.
ليس ذلك فحسب وإنما الكذب بأنواعه المختلفة، وخاصة إن كانت الكذبة تضر بإنسان، وكذلك الغيبة والنميمة وبالإضافة إلى السخرية واستصغار الأفراد والإنسان، فمن تكون أنت حتى تستصغر من شأن إنسان، أيًّا كان مستوى هذا الاستصغار، وخاصة إن كان بين جمع من البشر.
الربا: يقول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «وإنَّ رِبَا الجَاهِليّة مَوضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإنّ أَوّلَ ربا أَبْدأُ بِهِ رِبَا عَمّي العباسُ بن عبدالمطلب، ساقط لا حساب له لأنه جاء من حرام، فالله تعالى لا يرضى للعبد غير الطيب». ويمكن أن يلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم بدأ التحريم بربا عمه (العباس) رضى الله عنه، وهذا من مبدأ القدوة الحسنة والعدالة والمساواة التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية، فلا أحد يستثنى من أمر يُفرض على الجميع.
وجميعنا يعرف اليوم أضرار الربا، فهي أكثر آفة اقتصادية دخلت حياة الإنسان، فهي تشبه الرابط أو الحبل الذي يربط به –عزكم الله- الأبقار أو الحمار التي تدور في ساقية، أي في مكان واحد للقيام بجلب الماء لري المزروعات، فهذا الحيوان يدور في ساقية طوال اليوم وهو في نفس مكانه طوال الوقت، وهكذا الإنسان الذي يربط نفسه بقروض كبيرة، فهو يعمل ويعمل لسد فوائد تلك القروض، فأنت –أيها الإنسان– تعمل طوال حياتك لتسد هذه القروض لتحاول أن تفك القيد الذي يقيد رقبتك، ولكن –في الكثير من الأحيان– تجد نفسك مضطرًا أن تلجأ للقروض والفوائد مرات ومرات، لذلك فأنت تستمر في الدوران في الساقية طوال حياتك.
النساء والأسرة: قال صلى الله عليه وسلم في كلمات واضحة ومحددة «اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، واستوصوا بالنساء خيرًا». وهذا يوضح لنا أن الإسلام هو الشريعة الأولى والوحيدة التي أنصفت المرأة سواء في التاريخ القديم أو حتى في القوانين الحديثة، اقرأوا التاريخ، اقرأوا تاريخ الرومان والفرس والهنود وكل الحضارات والثقافات التي جاءت قبل الإسلام، اقرأوا توصيات أفلاطون وسقراط وغيرهم، كل هؤلاء كانوا يستنكرون أن تكون المرأة (إنسانا)، وحتى في الحضارة الغربية أو الشرقية اليوم، فمازالت المرأة فيه تكافح حتى تحظى بحقوقها، إلا أن الإسلام مازال هو الدين الوحيد الذي حقق ووضع الأسس والمبادئ الواضحة والصريحة لحقوق المرأة، فأعطاها حق الاحتفاظ بحياتها ومالها ورغبتها في التعليم والتفكير، وأعطاها مساحة كبيرة من الحرية وفي الأساس اعتبرها إنسانا بل جزءا أساسيا من المجتمع، فكرمها كأم وابنه وأخت وعاملة ومفكرة وصاحبة عمل وأيًّا كان موقعها من الحياة.
العدالة والمساواة: قال صلى الله عليه وسلم: «أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ، وآدمُ من تُراب، أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على أعجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد»، وهذا يعني أننا –كلنا من غير استثناء– من أب واحد، ومن قبيلة واحدة ومن أصل واحد، فلا إنسان أفضل من إنسان، ولا شخص أفضل من شخص، فالجميع متماثل متشابه والكل سواء.
فلم تتكون الأصول والأنساب إلا من بعد أن دخل الإنسان عصر الرغبة في التميز والتفاضل، فمن يقول إن فلانا أفضل من فلان؟ ولماذا هو الأفضل؟
وحتى يؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفكر فلنعود إلى موضوع تلك الفتاة المخزومية التي سرقت، فعندما حاول بعض الصحابة الكرام التشفع لها لأنها مخزومية، وقف وتحدث مع الناس وبكل وضوح وقال: «إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»، وحاشا لله أن تقوم الزهراء رضى الله عنها بهذا الفعل الشنيع، إلا أنها عدالة الإسلام ومساواة كل أفراد المجتمع في حكم القانون.
لذلك فعدالة الإسلام واضحة لا تفرق بين ابن فلان أو فلان، فالجميع سواء أمام القانون، فمن يقوم بأي مخالفة يخالف الشرع الإسلامي فإنه يعاقب، إن ثبتت عليه المخالفة.
وكما أشرنا، فإن خطبة الوداع يمكن أن تُعد دستورا قانونيا لحقوق البشر، فهي تحوي الكثير من المعلومات والمعارف، ونعتقد أن مقالا واحدا أو عدة مقالات لا تفي الخطبة حقها، فالخطبة تتحدث عن السعادة في الحياة، وتتحدث عن الأخوة الإسلامية وتتحدث عن طرق الشيطان في التلبيس على بني آدم والكثير الكثير من المعارف والمعلومات، لذلك نقول لمن رغب في الاستزادة يمكنه ذلك بالرجوع إلى النص الأصلي للخطبة، وأما نحن فنكتفي بما قلنا هنا.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك