العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذي فارق دنيانا منذ عام 1977، يحتاج إلى مجلد كبير للحديث عن تأثيره في مسار الاغنية العربية الحديثة، لقد كان عبدالحليم حافظ ينتج الاغنية في عدة شهور، وأحيانا في عام كامل، فمثلا اغنية قارئة الفنجان استغرقت أكثر من عام بين تلحين وتدريب للموسيقيين على عزف اللحن.
وكان عندما ينتهي من اللحن والتسجيل لأي أغنية جديدة يجمع بعض أصدقائه من المهتمين بأمور الموسيقى والغناء للاستماع الى الاغنية الجديدة لمعرفة آرائهم. كان عبد الحليم يتلقى الكلمات من المؤلف فيقرأها ثم يعيد قراءتها قبل أن يقرر إسنادها إلى أحد كبار الملحنين.
ان الكثير منا يعرف أن عبدالحليم كان مريضا (بدوالي المريء) وان النزيف كان يهدد حياته بالموت، ولكن لم يعرف الكثير منا كيف كانت علاقته بهذا المرض وماذا كان يفعل أثناءه، وكانت الممرضة الراهبة (ايتالا بيتاتو) هي الوحيدة التي ترعاه وتمرضه على مدى عشر سنوات، وفي لقاء مع هذه الممرضة قالت: كنت أحاول أن أرسم صورة عن قرب في لحظات مرضه، وكانت هذه الممرضة مرحة وخفيفة الروح، وقد جاءت إلى مصر للخدمة بمستشفى العجوزة تقول لم أعرف في البداية من هو (عبدالحليم) وان كنت أفهم بأنه شخصية مهمة من كثرة الرسائل والتليفونات الواردة إلى المستشفى، فكنت أتساءل لهذه الدرجة هذا شخص مهم ومحبوب، حتى عرفت من الممرضات المصريات عنه الكثير، فأدركت سر هذا الحب العجيب، أما بخصوص ثقته بالممرضة ايتالا فقد كان يرفض دخول أي ممرضة الا بوجودها.
حقا كان صوت عبدالحليم حافظ يأخذنا إلى بوابة التذكر والحلم حتى أن اغنياته تصل بك الى ذروة مشاعر غير مسبوقة، هي مشاعر تصافح الزعيم جمال عبدالناصر وهو يهزم البنك الدولي وشروطه ويدفن أحلام التدخل الأجنبي في قناة السويس، كان عبدالناصر يتعجب من عدد أغنيات عبدالحليم حافظ من إذاعة القاهرة القليلة، فرفع عبدالناصر سماعة التليفون وأبلغ وزير الإعلام بأنه يسمع أغاني عبدالحليم أحيانا من إذاعة إسرائيل أكثر مما يسمعها من إذاعة مصر.
تقول سامية صادق الإذاعية الكبيرة بإذاعة القاهرة: «كنت أقدم برنامج ما يطلبه المستمعون، وكان يأتي عبدالحليم حافظ ويجلس على مكتبي ويفتح معي الخطابات التي تصل إلى الآلاف، وكان له وقتها أغنية واحدة مطلعها (ليه تحسب الأيام وتعد لياليها) وقال لسامية ليتك تذيعين هذه الأغنية ورغم تحمس عبدالحليم، فإنني قلت له: ليس في صالحك أن أذيع هذه الاغنية على مستوى متكرر وسط أغاني العمالقة أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الاطرش، عليك أن تعمل أكثر وستجد نفسك في يوم من الأيام الكل يطلب أغانيك.
وبالفعل أكثر الاغاني التي حطمت الرقم القياسي بعد ذلك كانت أغنية (على أد الشوق) ومن خلال برنامج (الاسرة البيضاء) كان عبدالحليم على استعداد كامل للذهاب معنا الى أي مستشفى من الاسكندرية الى اسوان وسوريا وحتى اوروبا، لم يتأخر عبدالحليم عن أي مريض يريد الاستماع اليه في زيارته، وفي هذا الشأن تقول سامية صادق أتذكر حادثة شهيرة عبر خطاب من مريض مصري يعالج في مستشفى (بون الجامعي بألمانيا) بعد تقاعس أهله عن زيارته كان هذا المريض يحتضن الراديو للاستماع الى برنامج (حول الأسرة البيضاء) وكان اسمه (محمد عباس) وبالفعل تمت مراسلته للتخفيف عنه، وأول خطاب وصل إليه كان من (خالد جمال عبدالناصر)، وطلب محمد عباس أن تذاع أغنية له كل أسبوع من عبدالحليم حافظ ولم يتخيل أن يزور البرنامج (بون) ومعنا عبدالحليم حافظ حيث غنى له وجها لوجه حتى كاد يسقط (محمد عباس) مغشيا عليه.
والسؤل المطروح: لو عاش عبدالحليم حافظ سنوات أخرى هل سيستمر في عطائه وتألقه؟ أم سيشارك بحذر مثل نجاة الصغيرة... أو يعتزل مثل سعاد حسنى، أو يكتفي برصيده مثل شادية تلك هي أسئلة لو طرحت، ماذا سيكون الرد: من الطبيعي أن يحدث تحول لدى الجمهور من مستمع يخفق قلبه مع صوت حليم مع تطور الزمن، يقول الإذاعي الكبير الرائد وجدي الحكيم، الذي ارتبط بعبدالحليم سنوات طويلة، عبدالحليم كان يحمل راية التغيير في عصره لأنه جاء بلون غنائي لم يكن سائدا، لذلك رفضه الجمهور في البداية ثم عاد وتقبله، فهو قائد لتيار مغاير لكل من كان قبله، وبالتالي من جاؤوا بعده التزموا خطه الفني وساروا في هذا اللون، ولكن ظل حليم متربعا، وانه لو امتد به العمر لكان رشد هذا التيار الغنائي.
يقول الملحن كمال الطويل، الذي غنى حليم له أجمل ألحانه، لو عاش حليم فترة أطول أو حتى ظهر صوت يوازيه، لما ظهرت أي بوادر للموجة الغنائية الهابطة والمتسيدة الساحة حاليا، ان ظهور هذه الموجة ينتجها الفراغ في الميدان الغنائي مثل الفراغ السياسي، وثمة أسباب أخرى نتيجة رحيل نجوم الاغنية مثل فريد الاطرش وأم كلثوم وعبدالوهاب، إضافة الى غياب كبار الملحنين مثل رياض السنباطي والقصبجي.
فعبدالحليم أعانته ظروفه في إخراج أجمل ما عنده، بمعنى ان الظروف السياسية التي عاشها واحتضان ثورة يوليو 1952 له جميعها عوامل ساعدت في إبراز موهبة عبدالحليم في أفضل صورها، بل لعلها فتحت شهيته نحو الغناء.
يقول الإذاعي الكبير (وجدي الحكيم) لقد كان اللحن يخرج من ملحن بشكل، ومن حليم بشكل مختلف تماما، لذلك كان يقال عليه إنه يعلم الالحان.. أما الحاجة (علية شبانة) الشقيقة الكبرى لعبدالحليم فعندما طرح عليها السؤال ماذا لو عاش عبدالحليم سنوات أخرى؟ فأجابت الرد الوحيد على هذا السؤال قالته قبل رحلته الأخيرة للعلاج عندما قالت الحاجة علية: إن الزمن تغير، والأغنية الطويلة لن تجد من يسمعها أكثر من هذا.. لقد كان آخر أحلام عبدالحليم حافظ هو تقديم الأغنية ذات الدقائق الثلاث بشكل حديث، لذلك لم يكن السؤال عبثا الذي طرحناه عن تطور الأغنية العربية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك