شهدت الآونة الأخيرة تراجعًا في أسعار النفط، حيث سجل سعر خام برنت 74,90 دولارا للبرميل، وغرب تكساس 70,34 دولارا للبرميل، وأوبك 74,2 دولارا للبرميل في 22 يونيو2023، وهي الأسعار الأقل منذ نهاية عام 2021، فيما يعزى هذا الانخفاض إلى قوة الدولار الأمريكي، نتيجة الرفع المستمر لأسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو الاتجاه الذي سار عليه بنك إنجلترا، وكذلك البنك المركزي الأوروبي، ما يجعل الاستثمار في حيازة الأصول المالية المقومة بهذه العملات الرئيسية، أكثر جدوى من الاستثمار في أصول أخرى أو الاستهلاك.
بالإضافة إلى ذلك، يعزى هذا الانخفاض أيضا إلى استمرار عدم اليقين بشأن انتعاش الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر الاقتصادات العالمية، برغم إنهاء الإجراءات الصارمة لمواجهة كوفيد19، وبرغم إقبال «بكين»، على خفض أسعار الفائدة الرئيسية على القروض لأول مرة في 10 شهور، وخفض الفائدة على القروض لأجل عام، و5 أعوام، لحفز قطاعي التجزئة والتصنيع، وإكسابهما القوة الدافعة للنمو؛ لكن يبدو أن هذا التحفيز لم يكن كافيًا لعودة الطلب الصيني إلى سابق عهده، خاصة أنها كما هو معلوم أكبر مستورد للنفط في العالم. من ناحية أخرى، فإن ارتفاع مستويات مخزونات النفط الأمريكي لدى الدول المشترية الكبرى له، كالصين والهند، يعد من الأسباب القوية الأخرى لانخفاض طلب هذه الدول عليه.
ووفقا لعديد من المراقبين، كان من المتوقع أن ترتفع أسعار النفط بعد أن أعلنت «السعودية»، في يونيو لدى اجتماع منظمة «أوبك بلس»، اعتزامها خفض إنتاجها النفطي بمقدار مليون برميل يوميًا، ليصل إلى 9 ملايين برميل يوميًا في يوليو، وهو أكبر خفض تقرره منذ سنوات، إضافة إلى اتفاق أشمل للمجموعة للحد من المعروض لدعم أسعار النفط. ومن المعلوم، أنها توفر نحو 40% من معروض النفط العالمي. وكان وزير الطاقة السعودي الأمير «عبدالعزيز بن سلمان»، قد صرح أن المنظمة قد أعلنت تقييم القدرات الإنتاجية لكل الدول الأعضاء بنهاية 2024، من ثلاث جهات مستقلة لأخذ ذلك في الاعتبار عند تحديد مستويات الإنتاج في 2025.
ونتيجة لتراجع أسعار النفط، أعلنت «وزارة المالية الروسية»، أن إيرادات الميزانية الاتحادية من قطاع النفط والغاز، قد تراجعت بنسبة 36% في مايو الماضي، مقارنة بمثيلتها عام 2022، و12% عن أبريل 2023، فيما تمثل إيرادات النفط والغاز المصدر الرئيسي لتمويل الميزانية؛ ما أدى إلى تفاقم عجز الميزانية المرتفع بالفعل. وكانت إيرادات الميزانية الروسية من مبيعات النفط والغاز قد بلغت 7 مليارات دولار في مايو.
وبالنسبة إلى دول الخليج، وبحسب توقعات «صندوق النقد الدولي»، فإن نقطة التعادل لأسعار النفط في عام 2023؛ هي (66,8 دولارا للبرميل في السعودية، و65,8 دولارا للبرميل في الإمارات، و57,8 دولارا للبرميل في الكويت، و49,9 دولارا للبرميل في قطر، و75 دولارا للبرميل في سلطنة عُمان، أي إنه إذا ظلت الأسعار كما هي عليه دون انخفاض آخر، فستكون ميزانيات السعودية والإمارات وقطر والكويت بمنأى عن العجز المالي في 2023.
وبجانب الأسباب الموضوعية لانخفاض أسعار النفط -التي ذكرنا بعضها- فيما يتعلق بقوة الدولار واليورو والإسترليني، نتيجة ارتفاعات أسعار الفائدة، وارتفاع المخزونات الأمريكية، والمخزونات لدى الدول المستوردة الكبرى، وعدم اليقين بالنسبة إلى نمو الاقتصاد الصيني، وهشاشة الطلب الصناعي في الاتحاد الأوروبي؛ فقد كانت هناك تداعيات أخرى تمثلت في أزمة انهيار بعض البنوك الأمريكية، وتراجع أسهم مصرف «كريدي سويس» بشكل حاد، وارتفاع تكلفة تأمين سنداته ضد مخاطر التخلف عن السداد، ثم أزمة سقف الدين الأمريكي، وما مثلته من تهديدات تعثر الولايات المتحدة عن سداد ديونها للمرة الأولى في تاريخها في 5 يونيو الماضي، بعد أن تجاوز حد الدين 32 تريليون دولار.
علاوة على ذلك، مثلت المشتريات الضخمة للصين والهند -أكبر مستوردي النفط في العالم- من النفط الروسي الواقع تحت طائلة العقوبات الغربية، أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض أسعاره، حيث لامست هذه المشتريات مستوى مرتفع قياسيًا، بلغ في مايو 49,2 مليون برميل للصين، و66,7 مليون برميل للهند، بزيادة 10% عن أبريل، وذلك لرخص أسعاره، وانخفاض تكاليف شحنه، وذلك برغم التحذيرات الأمريكية ضد الالتفاف على سقف أسعار النفط. وفي واقع الأمر، كانت زيادة هذه المشتريات على حساب مشترياتهما من نفط الشرق الأوسط.
وفي تأكيد على هذا التحليل، سعت «الهند»، إلى استثمار هذا الوضع بشرائها النفط الروسي الرخيص، ثم تكريره، وإعادة بيعه لأوروبا، ما جعل منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل»، يصرح بأن التكتل يدرك أن المصافي الهندية تشتري كميات كبيرة من النفط الروسي، ثم تقوم بتحويله إلى وقود تبيعه في أوروبا، مطالبا الاتحاد الأوروبي بالتحرك لوقف هذا الأمر، ومؤكدا أن عقوباتهم قد تستهدف مشتري الوقود المكرر الهندي، الذي يعتقد أنه مشتق من الخام الروسي. وبسبب ضخامة مشتريات «نيودلهي»، من النفط الروسي، فإنه للمرة الأولى في تاريخها أصبحت «موسكو»، أحد الشركاء التجاريين الخمسة الرئيسيين لها، فيما بلغ حجم التجارة بين البلدين العام الماضي 38.4 مليار دولار.
من جانب مشابه، فإنه برغم العقوبات الأمريكية على «إيران»، فقد وصلت إلى أعلى مستوى من صادرات النفط خلال العامين الماضيين، متجاوزة 1.3 مليون برميل يوميًا، حيث صدرت العام الماضي 190 مليون برميل من النفط أكثر من عام 2021، وصدرت في العام الحالي 83 مليون برميل أكثر من عام 2022، فيما صادرت «الولايات المتحدة»، في مايو الماضي، السفينة «سوبر رجان»، التي كانت تحمل نفطًا إيرانيًا مهربًا من العقوبات الأمريكية، وإلى ذلك طالب أعضاء في مجلس الشيوخ «إدارة بايدن»، بفرض عقوبات على مصافي التكرير والموانئ في الدول التي تتعاون مع قطاع النفط الإيراني، ومن المعلوم، أن هذه الصادرات تتجه إلى الصين، وسوريا، وفنزويلا، وكما تلتف «طهران» على العقوبات الأمريكية ضد نفطها، فكذلك تفعل فنزويلا.
غير أن العوامل الموضوعية المتعلقة بأساسيات السوق من عرض وطلب، ليست وحدها المسؤولة عن انخفاض أسعار النفط، وإنما تعد المضاربة «سببًا رئيسيًا» في هذا الانخفاض. وتشير بعض الدراسات إلى أن كمية النفط التي يتم تداولها في أسواق المستقبليات تمثل نحو 3 أضعاف الإنتاج اليومي الفعلي، وتشير أخرى إلى أن صافي هذه المعاملات، ربما يصل إلى نصف الإنتاج اليومي، وفي كل الأحوال، فإن أسواق المستقبليات تتناول كميات ضخمة، ما يجعلها عالية التأثير على مستوى الأسعار التي يدفعها العالم في النفط ولما كانت كل شحنة نفط يتم تداولها عدة مرات، فإننا نجد أن عدد العقود المتداولة يفوق أضعاف الكميات المتبادلة فعليًا، وكل تداول جديد يضيف أو يخفض دولارات إضافية، حسب نسبة التأثير في سعر البرميل الورقي، ومن ثم يؤثر في سعر البرميل الفوري.
وبشكل عام، فإن أسواق النفط لم تعد تعتمد فقط على صفقات البيع التقليدية، بل أصبحت «عملية المضاربة»، عاملاً فاعلاً في السوق، وتنوعت الجهات المشاركة في أسواق النفط وتوسعت كثيرًا، وشملت شركات ومصارف ومؤسسات مالية وأفرادا. ونشط كثير من هؤلاء في أسواق النفط الآجلة، وما يميز عقود النفط الآجلة إنها تباع وتشترى في تاريخ مستقبلي محدد سلفًا، ولا تمثل أداة ملكية كالأسهم، ولا يتداول المستثمر في هذه العقود سلعة مادية أو يشتري نفطا خاما، إنما يقوم بعمليات بيع وشراء العقود بشكل مخطط لها بهدف المضاربة.
وتحقيقا لهذه الغاية، تكونت صناديق للمضاربة، خاصة أن هذه العملية تبني على أساس التوقعات المستقبلية للأسعار، وهذه التوقعات ترتكز على مجموعة من المتغيرات الاقتصادية والسياسية والمناخية الكلية. وعندما تشير هذه التوقعات إلى احتمال ارتفاع الأسعار يبدأ المضاربون في الشراء، فترتفع الأسعار بصورة أكبر، وعندما تنعكس تلك التوقعات تبدأ عمليات بيع النفط، فتنخفض أسعاره بصورة أكبر، وهو ما يؤدي إلى زيادة نطاق التقلبات السعرية للنفط بفعل اتجاهات المضاربة، وقد غدت السوق الورقية أو المستقبلية من أكثر الأسواق نشاطًا في العالم، وتحولت إلى أن تصبح الأساس الذي يتم عن طريقه تسعير النفط، وتعمل هذه السوق على مدار الساعة في العقود المستقبلية قصيرة وطويلة الآجل.
ولما كانت عمليات المضاربة تتجه بالأسعار إلى انخفاض أكبر، جاء القرار السعودي بالخفض الطوعي للإنتاج بمقدار مليون برميل يوميًا خلال شهر يوليو، والذي يمكن تجديده، وهو قرار لا يتعلق بانخفاض نمو الطلب على النفط أو بالأسعار، بل يتعلق بإحكام السيطرة على سوق النفط، بدلاً من تركها للمضاربين. والغرض من التخفيض في النهاية رفع الأسعار المستقبلية في الشهور الأولى، ثم انخفاضها في الشهور التالية، نتيجة قيام من لديهم مخزون كبير بالبيع بالأسعار المرتفعة، ثم قيامهم بإعادة تكوين المخزون بالأسعار المنخفضة، فإذا لم يؤت هذا الاتجاه ثماره في نهاية يوليو، أو منتصفه تعلن «الرياض»، أنها ستستمر في التخفيض لشهر أغسطس، إلى أن يتحقق التأثير عبر آلية التخزين، وفي هذا الاتجاه يلعب المضاربون على قدرة المملكة على الاستمرار في هذه السياسة، موظفين لذلك ملايين الدولارات.
ومن المعلوم، أن «أوبك بلس» في اجتماعها يوم 4 يونيو الماضي، قد قررت مواصلة تخفيض الإنتاج اليومي لمواجهة استمرار تراجع الأسعار. ويعني هذا في أساسيات السوق، أنها تنزل بمستوى العرض إلى حدود الطلب، فيما تخفض السعودية إنتاجها اليومي بمقدار مليون برميل بحلول يوليو. وكانت المجموعة قد أكدت أن الهدف هو تخفيض الإنتاج اليومي بنحو 1.5 مليون برميل يوميًا بحلول 2024، ومن ثم يمكن لقرارها أن يؤثر بشكل كبير في الأسعار، لجهة توليها النسبة الأكبر في إجمالي المعروض. وقد جاء هذا الاجتماع بعد تراجع سريع للأسعار بسبب وفرة المعروض. وبحسب نائب رئيس الوزراء الروسي أليكسندر لوزاك، فإن حجم التخفيض من قبل التحالف النفطي قد بلغ منذ أكتوبر الماضي 3.66 ملايين برميل يوميًا، فيما خلصت المناقشات إلى توسيع اتفاق التخفيض وتمديده إلى نهاية عام 2024.
على العموم، من وجهة نظر «السعودية»، يجب أن يبقى سعر برميل النفط أعلى من 80 دولارا حتى تكون هناك جدوى من الإنتاج، وحتى يمكنها استغلال العائدات النفطية في تنفيذ مشروعاتها الطموحة التي تتكلف مليارات الدولارات. ومن المتوقع حين يبدأ هذا التخفيض في إحداث آثاره في السوق، وتبدأ الدول التي لديها مخزون كبير في الاستفادة من السعر المرتفع؛ أن يميل سوق النفط إلى الاستقرار، انتظارا لتعافي الاقتصادات الكبرى، وخروج العالم من أزماته المتواكبة، التي أفضت إلى حالة التباطؤ التي يشهدها الاقتصاد العالمي.
لكن في نهاية المطاف، القرار السعودي يتعلق بمن بيده الأمر في تحديد اتجاهات السوق، وأساسياته من عرض وطلب، أما المضاربة التي أخذت تستفحل في إحداث تقلبات أسعار العملات والسلع وليس النفط فقط، فإن تكلفتها يدفعها كل من المنتج والمستهلك، وتخلق العديد من الأزمات التي لم يكن آخرها الأزمة المالية العالمية 2008، والعديد من مظاهر الأزمات الحالية التي تعاني منها دول العالم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك