مازلتُ أتذكر القانون الثالث لنيوتن للحركة الذي درستُه عندما كنتُ طالباً في المرحلة الثانوية قبل قرابة خمسين عاماً، ومُلخص هذا القانون في علم الميكانيكا بأن لكل فِعل رد فعل مساويا له في المقدار ومعاكسا له في الاتجاه.
فهذا القانون أُطبقه دائماً في واقعنا الحالي على أفعال وممارسات الإنسان تجاه بيئته ومكوناتها الحية وغير الحية، فكلما أَطلقَ الإنسان الملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى إلى عناصر البيئة، جاءت ردود أفعال هذه العناصر البيئية مباشرة وبنفس القوة والمقدار، أي تساويها مقداراً وتضادها اتجاهاً، ولو بعد حِين من الزمن، لتعكس سوء فعل الإنسان وتصرفاته، وتبين الأضرار التي ارتكبتها أيدي الإنسان تجاه مكونات بيئته، بل وفي تقديري ومن خلال متابعتي ومراقبتي لردود فعل البيئة وجدتُها في بعض الحالات التي سأتحدث عنها لاحقاً، أكثر شدة وتنكيلاً من الفعل نفسه، وأقوى تأثيراً على الأرض برمتها، كما أن رد الفعل البيئي تجاوز وتعدى حدود الجيل الواحد نفسه ليؤثر على الأجيال المتلاحقة.
فعندما شرع الإنسان قبل أكثر من 200 عام وحتى يومنا هذا في أنشطته التنموية المتسارعة وغير المتبصرة وغير الرشيدة، سمح للملوثات من المصانع والسيارات بالدخول مباشرة إلى الهواء الجوي دون معالجة ذات جدوى وفاعلية، ودون تحييد كلي لهذه الملوثات وإزالة السموم منها، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك رد فعل شديد وعصيب من الهواء الجوي، واختلف وتنوع رد الفعل هذا من الهواء الجوي في قوته ودرجته بحسب قوة ودرجة سُمية ونوعية هذه الملوثات.
ففي العقود الأولى من الثورة التنموية الصناعية كان الإنسان يستخدم أنواع الوقود الأحفوري من فحم ومشتقات النفط والغاز الطبيعي، التي كانت تحتوي على مستويات مرتفعة من مركبات الكبريت، فعندما يحترق هذا النوع من الوقود في المصانع ومحطات توليد الكهرباء، ينطلق منه غاز ثاني أكسيد الكبريت، إضافة إلى غازات ملوثة وحمضية أخرى مثل ثاني أكسيد النيتروجين، فكان رد فعل الهواء الفوري هو تحول هذه الغازات الحمضية في السماء مع وجود بخار الماء إلى أحماض، مثل حمض الكبريتيك، أو حمض البطاريات والمعروف محلياً بـ«التيزاب»، وحمض النيتريك والكربونيك، وكل هذه الأحماض كانت تتكون في السماء العليا فتنزل على شكل أمطار حمضية، أو ثلوج حمضية تَكُون وبالاً ونقمة على البشرية جمعاء، فتدمر الشجر والحجر، وتهلك الحرث والنسل.
وعلاوة على ذلك، فإن احتراق الوقود الأحفوري ولَّد غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ارتفع إلى السماء العليا وتراكم مع الزمن في تلك المنطقة، وكوَّن طبقة واسعة فوق سطح الأرض عَمَلتْ على حبس الحرارة ومنعها من الانتشار، ما أدى إلى انكشاف قضية العصر الكبرى، وهي التغير المناخي وسخونة الأرض وارتفاع حرارتها. وهذا الارتفاع في حرارة الأرض شكَّل تداعيات كثيرة ومتنوعة هزَّت سلامة وأمن كوكبنا كله، منها ارتفاع حرارة وحموضة مياه المسطحات المائية، الذي أدى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر ووقوع الفيضانات وتدمير المرافق الساحلية. كما أن تداعيات التغير المناخي تخطت الجوانب البيئية وامتدت واتسعت دائرة تأثيراتها على الجوانب الصحية، والاقتصادية، وأمن واستقرار الدول، أي أن رد فعل الهواء الجوي في هذه الحالة فاق وتجاوز فعل وممارسات الإنسان نفسه. كذلك فإن تداعيات التغير المناخي لن يتأثر بها هذا الجيل فحسب، وإنما ستصل حتماً وتؤثر على الأجيال المستقبلية من بعدنا، جيلاً بعد جيل.
كذلك فإن الاعمال التنموية للإنسان سوَّقت منتجات كانت تعتبر في البداية منتجات سحرية لها تطبيقات لا تعد ولا تحصى في حياتنا اليومية، وبالتحديد المركبات العضوية التي تحتوي على العناصر الهالوجينية مثل الكلورين، والفلورين، والمعروفة بالفريون أو مركبات الـ«سي إف سي» (CFCs). فهذه المجموعة الكبيرة من المنتجات الاستهلاكية كانت تتميز بخصائص حميدة وفريدة من نوعها، مثل الثبات والاستقرار في البيئة، وعدم الاشتعال، وخمولها الكيميائي. ولكن تبين مع الوقت أن هذه الصفات والمميزات نِقمة وليست نعمة، وأنها بلاء وليست منحة، فهي بسبب عدم تحللها واستقرارها كانت تنتقل إلى طبقات الجو العليا، وبالتحديد إلى طبقة الأوزون في طبقة الاستراتسفير فتُحلل غاز الأوزون الموجود هناك، الذي يعمل كمظلة واقعية تحمي الكرة الأرضية ومن عليها من كائنات وأحياء من شَرِ الأشعة البنفسجية القاتلة التي كان غاز الأوزون يمتصها فيمنعها من الوصول إلى سطح الأرض. فهُنا أيضاً رد فعل البيئة على هذه التعديات كان شديداً جداً، وضرب الكرة الأرضية برمتها ووقعت أضرارها على كل كائن حي صغير أم كبير يعيش على سطحها.
وفي المقابل فإن أفعال الإنسان امتدت إلى المسطحات المائية، فصَرف الناس شتى أنواع الملوثات في بطنها، منها ملوثات مُغذية للنباتات البحرية، كالفوسفات والنيترات، وغيرهما من مصادر مختلفة منها مياه المجاري والصرف الصحي، إضافة إلى مخلفات مياه الصرف الزراعي والصناعي. فجاء رد فعل البيئة لهذه الأفعال والتجاوزات على هذا المكون البيئي سريعاً وحازماً، فقد أدت هذه الملوثات إلى وقوع طفرة كبيرة وواسعة في نمو الطحالب، فغطت مساحات واسعة من هذه المسطحات وحولتها إلى اللون الأخضر، أو البني، أو الأحمر القاتم. وهذه المساحات تحولت سريعاً إلى مقابر جماعية وصحراء مائية قاحلة لا حياة فيها، فانخفض كثيراً تركيز الأكسجين الذائب في الماء، واختنقت وماتت الأسماك والقواقع التي كانت تعيش في تلك المناطق المنكوبة، كما تسمم الناس الذين أكلوا من هذه الكائنات البحرية، أو استحموا في المناطق الملوثة.
فكل هذه الظواهر والحوادث الكثيرة والمتنوعة التي وقعت على عناصر البيئة من ماء، وهواء، وتربة نتيجة لتعدي الإنسان على بيئته، ونتيجة لأعماله اللامسؤولة، كانت ردود فعل طبيعية ومنطقية على هذه التجاوزات التي امتدت إلى كل شبر قريب أو بعيد من كوكبنا، كما أن ردود الفعل البيئية لم تقف عند حد التأثير على هذا الجيل وإنما انتقلت مباشرة إلى الأجيال القادمة، إضافة إلى أنها أضعفت في الوقت نفسه قدرة الموارد الأرضية وثرواتها الطبيعية على الاستدامة في العطاء والإنتاج لنا ولمن يأتي بعدنا، وزعزعت من حالة التوازن والاستقرار بين كافة عناصر البيئة الحية وغير الحية.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك