خلصنا في الأسبوع الماضي مع المتحاورين في ندوة «ثقافة الحوار في المجتمعات العربية» التي قدمها دكتور حسن مدن في مجلس الدكتور محمد الكويتي إلى رصد أربعة عوامل لغياب الحوار، أولا عوامل سياسية تتلخص في غياب الديمقراطية وضعف المجتمع المدني. ثانيا عوامل ثقافية تتعلق بالتربية في البيت والعلاقة بين الرجل والمرأة والأولاد ومفاهيم التربية التي تعظم الطاعة على حرية الرأي وتنمية الشخصية. ثالثا عوامل دينية تتلخص في إرث يقوم على الاعتقاد بامتلاك الحقيقة الوحيدة وبالتالي من الضروري ان يكون الآخر على باطل. رابعا عوامل تربوية تعليمية نابعة من فلسفة التعليم وأهدافه. إلى أي حد تسهم هذه العوامل في ثقافة الحوار وخلق البيئة المناسبة؟ وهل هذه العوامل شاملة أم أن هناك عوامل أخرى؟ مثل الجغرافيا والتاريخ؟ لمناقشة ذلك نطرح السؤال: هل خلق البيئة المناسبة شرط أساسي لتجذر الحوار؟ وما دور كل من هذه العوامل في خلق هذه البيئة؟
تذكيرا بتعريفنا للحوار، هو «القدرة على طرح مختلف وجهات النظر إقرارا بالتعددية التي تعبر عن مصالح مختلفة وقناعات فكرية متعددة ومتنوعة والقبول المبدئي بتعدد الآراء، واحترام هذا التعدد والاختلاف». ضمن هذا التعريف، الذي يعلي من قيمة الإنسان وحريته وكرامته، نبدأ بهذا التساؤل: هل للتقدم الغربي علاقة بثقافة الحوار؟ لم يعد التقدم محصورا في الغرب بل إن دولا كثيرة في مختلف مناطق العالم تمكنت من التقدم، مما يزيد من إلحاح طرح السؤال: هل للتقدم علاقة بثقافة الحوار؟ وما يتبعه من حرية تعبير وفكر واعتقاد واحترام الآخر؟ سوف نفترض في هذه المناقشة وجود علاقة. وسنحاول الاستدلال على ما يعزز هذه الفرضية وما يدحضها، ومحاولة الخروج بخلاصة للنتائج.
أولا السؤال حول الإسلام والحضارة العربية الاسلامية على أنها السبب تدحضه الوقائع والاحداث التاريخية. بدأت الدعوة الاسلامية بالمطالبة بالحوار وإبداء الرأي وحق التعبير عنه بالقول والاحتجاج. بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بمطالبة قريش بحرية التعبير في قوله «خلوا بيني وبين الناس». أي يدعو الى حرية الدعوة وحرية القبول أو الرفض. وفي فترة الخلفاء الراشدين شهدت خلافات كما شهدت انتعاشا لحرية الرأي وحرية التأويل والفهم لأحكام الاسلام، اعطى الخلفاء العقل حقه في الفهم، وهناك امثلة عدة في التأويل المختلف في عهد الخليفة عمر بن الخطاب تتعلق بالسرقة، وتوزيع غنيمة الحرب، والمؤلفة قلوبهم وغيرها؟ كذلك الحال بالنسبة إلى الأئمة من بعدهم. وكان هناك ثلاث مدارس فقهية، هي مدرسة أهل الرأي، ومدرسة أهل الظاهر، ومدرسة أهل الحديث التي كانت أكثر تمسكا بالنصوص وعدم الخروج عن الموروث منها. كما تنوعت المدارس العقدية مثل الاشعرية، والمتصوفة، والمعتزلة التي اعطت العقل حقه. راجت في القرن الثاني الى الرابع الهجري بدءا من عصر المأمون النهضة الاسلامية الاولى، عنت بالعلوم والثقافة، فأنتجت الفلسفة والعلوم. في هذه الفترة كان التعدد في المشرق العربي الاسلامي وفي الاندلس. اختلفت التوجهات ضمن المدارس الفقهية والعقائدية وتعددت الآراء الفلسفية في كتابات ابن رشد والغزالي.
ازدهر في عصر النهضة الاولى هذه العلم والحوار والاختلاف، واختطت لنفسها مسار العقل وثقافة الحوار والتعدد وأنتجت العلم والاختراعات التي مازالت قائمة واستفاد منها الغرب في نهضته في مع بداية القرن الثاني عشر؟ راجت الكتابات الفلسفية والفكرية والثقافية المتنوعة وتجلت في كتابات ابن سينا والكندي والرازي واخوان الصفا والمعري والجاحظ وغيرهم. وتمت مواجهة هذه الكتابات بكتابات اخرى تطرح الرأي الآخر، وليس القمع بقوة السيف، لكن سرعان ما تغير ذلك وانتهت هذه الفترة الذهبية في عهد القادر العباسي، الذي حدد عقيدة الدولة في الوثيقة القادرية وألزم بها الناس وحجر على العقل ورفض الاختلاف والتنوع، تلاها الغزو المغولي الذي أنهى الدولة العباسية عمليا، ومن ثم إلغاء السببية في كتابات الغزالي. فهل كانت هذه بدايات رفض ثقافة الحوار ورفض الاختلاف وتجميد دور العقل؟
إلى هذا الحد لا يختلف تاريخ الحضارة الاسلامية عن الحضارة المسيحية الاوروبية. السؤال لماذا لم تستمر النهضة التنويرية الاسلامية العربية هذه، لماذا تمكنت القيادات السياسية في الحضارة الاسلامية من ان تفرض رؤيتها الاحادية؟ وهل هذا كاف لإحداث هذا الفارق الكبير وإنتاج التراجع العربي؟
بدأت محاولة إصلاحية اخرى في عهد محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر، حيث قام بحركة تحديثية واعتُبر بذلك مؤسس مصر الحديثة. كان لإصلاحاته أثر سياسي واقتصادي واجتماعي. فمثلا قام ببناء جيش حديث، وأسس لمشاريع صناعية منها صناعة النسيج، وأوجد نظام المدارس، وبنى تحتية، وشجع على تنمية زراعية وتجارية وأسس للتنمية المستقبلية التي جعلت من مصر دولة رائدة في المنطقة، لكن هذه الإصلاحات لم تخْلُ من سياسة فوقية استبدادية لم تؤسس لحوار فكري. أي أن التحديث كان ماديا أكثر منه تحديثا فكريا.
تلتها حركة تنويرية في نهايات القرن التاسع عشر تناولت إحياء النهضة الاولى، بدأت بالأفغاني ومحمد عبده والطهطاوي. كانت حركة فكرية تجديدية إسلامية، مستفيدة من الكفاءات التي تخرجت في الجامعات وأسهمت في إثراء الحوار. لم تستمر، ومع ذلك فقد نشأت نهضة ثقافية وفنية كبيرة وحركة مدنية تمخضت عن احزاب سياسية تعبر عن تنوع انتهى بموجة قومية عربية أحادية التوجه. لماذا انطفأت هذه المحاولات واستمر الوضع في التراجع؟ سؤال تطرّق إليه العديد من الكتاب ويستحق البحث والتقصي.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك