المتأمل في الحشود المجتمعة على صعيد عرفة بقلوب مؤمنة خاشعة منكسرة أمام عظمة الله، مبتهلة الى رحمته تعالى ومتطلعة الى غفرانه وهداه، معظّمة لخالقها، مذعنة بفطرتها لتعاليم دينها، سائرة على نهج نبيها لا يفرقها لون بشرة او اختلاف لغة او جنسية دولة او وضع اجتماعي وإمكانات مالية وقدرات تأثيرية، متوحدة في التوجه الى الله جلّ شأنه في علاه، فهم جميعا مسلمون، فلا عرقية ولاطائفية ولا فئوية ولا مناطقية ولا مناصبية ولا شحناء ولا تباغض ولا احتراب على صعيد عرفة، الله ربهم ومحمد نبيهم والقرآن كتابهم، والجنة مطلبهم والخوف من النار يدمع عيونهم، وكل ما سواه أمر شخصي لا موقع له ولا ذكر أمام وحدتهم المناسكية والمكانية. إنهم إخوة الاسلام، إنهم أمة الاسلام، أمة المحبة والسلام بمعناه المشرق الوضاء ومضمونه المتدفق بالأمن والاطمئنان، ونبذ دواعي الشر والأذى والعدوان. حشود آمنة مطمئنة مستبشرة بما وعدها الله، وبما أتاح لها من نعمة الحج، تغمرها نفحات العقيدة السمحة، مصدر الهداية والاستقرار والأمن والأمان، وتتدفق من أفواهها لا بل من قلوبها دعوات صادقة بأن يرفع الله الغمة عن الامة والانسانية جمعاء، وان يخلصهم من كل ضيق وكرب ليسعد عموم المسلمين بما سعدوا به . فما أعظم منظر الحجاج على صعيد عرفة، وما أجل شعيرتهم، ان العين لتدمع والقلب يخشع إجلالا للموقف العظيم، الموقف الرباني حيث نعمة الاسلام التي جعلتنا بأداء شعائره ومناسكه أمة عظيمة موحدة متساوية في حقوقها وواجباتها، فلا طغيان لفئة ولا دكتاتورية لفرد، ولا أكل لحقوق الناس ولا تجاوز على ضعيف، ولا تخاذل في أداء الواجبات، ولا تراجع عن إحقاق الحق. مناسك الحج تعيدنا الى فطرتنا التي خلقنا الله عليها متساوون متحابون ضعفاء أمام الله، أقوياء أمام خلقه، أشداء على مردة الشياطين. مناسك الحج تعيدنا الى الزمن العربي الاسلامي الجميل، زمن الرسالة النبوية العظيمة، سواء بمسرحها، بين وديان وجبال وهضاب مكة المكرمة، او بتهليلها وتكبيرها وتسبيحها وتعظيمها لشعائر ديننا الحنيف. هنا نشعر فعلا اننا أحفاد بررة لابي بكر الصديق وعمرالفاروق وعثمان الخير وعلي الاخلاص والتضحية رضي الله عنهم ورضوا عنه، وغيرهم ممن حملوا الامة على اكتافهم وساروا خلف الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي حفظ الامانة وأوصل الرسالة وشيد نواة دولة العزة والحضارة.
ان الهيبة والمكانة والقدسية لشعائر الحج تتعاظم وتزداد رسوخا رغم كل دعوات وهجمات اعداء الإسلام، ورغم التضييق على المسلمين في مغارب الارض ومشارقها، الا ان الاسلام يزداد منعة وقوة وانتشارا، وتلك هي ارادة الله، فلا راد لأمره، على الرغم مما نراه من ضعف واقتتال بين المسلمين في عدد من بلاد العرب والاسلام، وهجمات عنصرية وازدراء بالإسلام والمسلمين في البلاد التي فيها المسلمون اقلية. وبلاد تدعي الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، لكنها ليست حرية الفكر السليم والدين القويم، بل حرية الفساد والافساد ونبذ الجسد، حرية المثليين، وحماية حقوق المخربين والمتآمرين وناكري الجميل.
اما حقوق المسلمين فهي مهدورة، وحريتهم في اداء مناسكهم ونشر عقيدتهم السمحة مرفوضة ان لم تعد جريمة، لكن نقول لهم الاسلام آت، ومع كل فجر نوره يزداد إشعاعا، وها هي مناسك الحج تزيدنا يقينا على يقين ان الاسلام سيعم العالم وسيصبح غيره من الاديان والشرائع اقليات، وسترفرف رايات «لا إله إلا الله محمد رسول الله» عالية في العالم أجمع، ليس بقوة سلاح، ولا بتهديد دنيوي، بل بأمر الله ووعده.
لذا ينبغي أن نتعمق في التأمل والتفكر، وان نستكشف حالنا ونشحذ الطاقة الروحية النابعة من هذه المناسبة العظيمة «وقفة عرفة وعيد الأضحى المبارك» لإصلاح الحال وتجاوز الهنات، وذلك لا يتحقق الا بأمن الانسان داخل نفسه، فاذا حلت فيه السكينة والطمأنينة انعدم الاضطراب وتجاوز الخوف من المجهول متسلحا بالإيمان والاصرار على تحقيق اهدافه، مدركا وواثقا من رعاية الله ورحمته وعونه، فلا تهزه الاحداث الدنيوية الراهنة ولا تفزعه الأهوال، مستذكرا قوله تعالى في سورة الرعد (آية28): «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».
وختاما نقول الحمد لله على فضله وإحسانه، الذي متعنا بالصحة والعافية والأمن والاستقرار واسمى آيات الشكر والعرفان لمقام خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية أطال الله في عمره، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وللحكومة والشعب العربي السعودي على ما يقدمونه من تسهيلات، وجهود جبارة وسهر على راحة وأمن جموع الحجاج، كتبها الله في ميزان حسناتهم، ونسأل الله أن يعيد عليهم هذه المناسبة العظيمة أعواما عديدة وأزمانا مديدة وهم في حفظ الله ورعايته.
وأطيب التهاني وأسمى التبريكات لقيادتنا الرشيدة بمملكة البحرين ممثلة بحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الموقر، وإلى الأسرة الخليفية الكريمة، وإلى شعب البحرين الوفي، والأمتين العربية والإسلامية، وكل عام والجميع بخير.
{ اكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك