يوما بعد يوم يتسع نطاق الأدوات والمنصات والخدمات والأساليب التقنية التي تندرج تحت مظلة التكنولوجيا المالية، وتسارع شركات لا، بل قطاعات خدمية في الانضواء تحت تلكم المظلة حتى أصبحت ظاهرة قادرة على تغيير مشهد ليس الصناعة المالية وحدها، بل الاستثمار وآليات التنمية، مع ما يترتب على ذلك من آثار في الخيارات المهنية ونماذج صنع القرار، وأصبح من الصعب وضع إطار ومفهوم محدد لها، فهي على الرغم من مرور أكثر من عقدين من الزمن مازالت تفاجئ ليس القطاع المالي وحده بل مختلف القطاعات الاقتصادية والتقنية والخدمية كالقطاع الصناعي والعقاري والزراعي والتعليم والصحة والقطاعات اللوجستية كالنقل والاتصالات والتجارة الإلكترونية وغيرها بامتداد خدماتها ونشاطاتها إليها، خاصة أن التكنولوجيا المالية تتيح خيارات متعددة للعملاء لاختيار المنتجات والخدمات التي يرغبونها والوصول إلى مجموعة واسعة من المنتجات والخدمات المالية التي تمثل الخيار الأنسب لهم بما في ذلك الخدمات والمنتجات التي تقدمها المؤسسات المالية التقليدية وكذلك الشركات الناشئة المبتكرة في مجال التكنولوجيا المالية، من خلال أذرعها في مجالات الأتمتة وتحليل البيانات والخوارزميات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يجعل من الممكن أن تؤدي هذه المنافسة المتزايدة إلى أسعار أكثر تنافسية، وتحسين جودة الخدمة، والابتكار في الصناعة المالية. وعلى الرغم من أن ذلك ظاهرة غاية في الإيجابية تبعث مزيدا من الحيوية للقطاعات التي تمتد إليها، وفي نفس الوقت تخلق مزيدا من المنافسة الإيجابية مع القطاعات التقليدية التي كانت تستحوذ على تلكم القطاعات، إلا أنها تثير أيضا مزيدا من المخاوف والتوجسات عن المستقبل، لاسيما الخوف من أزمات مالية ومصرفية جديدة مدمرة، خاصة وأن التكنولوجيا المالية ترتبط ارتباطا وثيقا بظواهر تقنية ومالية غير مستقرة وتتعاظم مخاطرها وتقلباتها مثل الذكاء الاصطناعي، والأصول الافتراضية وغيرها، علاوة على أن المشهد التنظيمي لشركات التكنولوجيا المالية قد يكون غير واضح لعديد من عملائها، ما يجعل من الصعب عليهم فهم حقوقهم وإنصافهم في حال تعرضها لأية مشكلات. ومن القضايا والانشغالات المهمة في التكنولوجيا المالية ما يتعلق بإخفاء الهوية في المعاملات عبر الإنترنت، والذي قد يؤدي إلى تسهيل عمليات الاحتيال، ما يزيد من احتمالية وقوع المستهلكين ضحية لعمليات النصب والاحتيال. أو طلب المستهلكين للمنتجات المالية المضللة التي تعد بعوائد مالية مبالغ فيها. كما إن المستهلكين قد يتعرضون لما يطلق عليه بالمخاطر المتعلقة بالتكنولوجيا مثل إساءة استخدام البيانات الشخصية للعملاء أو قد يقعون ضحية لجرائم الإنترنت الأخرى، خاصة وأن المعاملات عبر الإنترنت تتضمن مشاركة المعلومات الشخصية والمالية، ما يجعل المستهلكين عرضة لانتهاكات البيانات. وقد أشار استطلاع رأي أجرته شركة آرنست اند يونغ لعدد كبير من عملاء التكنولوجيا المالية أكد فيه ما نسبته 71% من الذين تم استطلاع آرائهم أنهم قلقون بشأن أمان بياناتهم الشخصية عند التعامل مع الشركات عبر الإنترنت.
الأمر الذي يتطلب مزيدا من التنظيم والتقنين والتدخل من البنوك المركزية والمؤسسات المالية الدولية، إلا أن حدود ذلك التدخل والقدرة على التنظيم لهذه المؤسسات والبنوك تكاد تكون محدودة، وارشادية في أغلب الأحيان، وذلك ناجم عن قدرة شركات التكنولوجيا المالية على الإفلات من مظلة الجهات التنظيمية. وهنا يبرز سؤال مهم، إلى أي مدى تستطيع دول مجلس التعاون الخليجي تحقيق أقصى منافع ممكنة لمواطنيها وقطاعاتها المالية والتنموية من التكنولوجيا المالية، وبنفس الوقت تحد من الآثار السلبية المحتملة من بعض أذرعها، ونشاطاتها؟
دون شك فإن دول مجلس التعاون الخليجي ومن خلال بنوكها المركزية وهيئات أسواقها المالية ومراكزها ومعاهدها المالية، والهيئات والإدارات المعنية بالتكنولوجيا المالية حريصة على إيجاد بيئة مالية ومصرفية وتنموية آمنة في بلدانها، تتوفر لها حزمة من التشريعات المنظمة لأنشطتها وإدارات كفوءة فاعلة لمؤسساتها المالية، وترتبط وتتفاعل مع البنوك المركزية والهيئات المالية والأكاديمية في مختلف دول العالم، وتتابع من كثب التطورات الإيجابية والسلبية لمختلف الظواهر المالية وليس التكنولوجيا المالية وحدها، وتتخذ القرارات المناسبة لترصين مؤسساتها المالية وحماية المواطنين والمستثمرين من أية أخطار محتملة. ومع ذلك ينبغي إيجاد إطار خليجي موحد مثل مرصد مالي خليجي متخصص بالتكنولوجيا المالية والتقنيات ذات الصلة بها، يكون بمثابة مرجعية إقليمية لكل ما يتصل بانشغالات التكنولوجيا المالية بما في ذلك ضمان حقوق عملاء شركات التكنولوجيا المالية وأن تكون شركات التكنولوجيا المالية أعضاء فيه، إلى جانب البنوك المركزية الخليجية وهيئات أسواق المال والبنوك التجارية والمؤسسات المالية الأخرى، وبما يخلق بيئة إيجابية ضامنة ومحفزة لجميع الأطراف.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك