لقد قيل وكتب كثير وسال كثير من الحبر في الحديث عن لوائح الاتهام الموجهة ضد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتعداد جرائمه المزعومة، ودفاعه عن نفسه بالقول إنه يتعرض لحملة سياسة حزبية تستهدفه.
ومع ذلك، ورغم هذا التطورات والتداعيات المترتبة عليها فإن القصة الأكبر هي تلك التي تتعلق بالتحول الجذري الذي يحدث في صلب مكون كبير من الناخبين الأمريكيين إلى حركة تشبه الطائفة في ظل عبادة شخصية زعيم الطائفة - دونالد ترامب.
أذكر أنه في أحد المرات افتخر الحزب الجمهوري بأنه ينتمي إلى يمين الوسط ويحمل فلسفة محافظة بسيطة قوامها سيادة القانون، والحرية الفردية، والحد الأدنى من الضرائب، والحكومة الصغيرة.
لقد تحول هذا الحزب الآن إلى حركة غير متسامحة، معادية للأجانب، تتبنى فكرا ومواقف شعبوية زائفة، تستغل مخاوف واستياء الأمريكيين الذين أربكتهم وأثرت فيهم التغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية.
كانت هذه العوامل بمثابة الشرارة. أما الشرارة الأكثر تأثيرا والتي أفرزت هذه التحولات والتي ولدت الاضطرابات الاجتماعية فهي تعزى إلى الانهيار الاقتصادي الذي حدث في عام 2008 وانتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.
كان أوباما مصدر إلهام لتحالف من الناخبين الشباب، والنساء، والسود، واللاتينيين، والآسيويين، والمجتمعات المهاجرة الحديثة برسالة أمل ورؤية لأمريكا شاملة.
في غضون أشهر من فوز أوباما الحاسم في تلك الانتخابات الرئاسية، راح الجمهوريون يشنون ضده ما يمكن أن نسميه هجومًا ثقافيًا مسعورا، مستغلين استياء الناخبين الذين شعروا بأنهم متخلفون عن الركب ومهمشون.
أشارت «حركة بيرثر» أو ما يعرف باسم حركة «بلد الولادة» إلى أن أوباما لم يكن مولودًا في الولايات المتحدة الأمريكية وأن رئاسته غير شرعية - كما انبرى حزب الشاي يشجب ما يسميه «الحكومة الكبيرة» بسبب المشاكل الاقتصادية والتوترات الاجتماعية التي تواجه الأمريكيين البيض من الطبقة الوسطى. وضعت هاتان الحركتان أساس صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في انتخابات عام 2016.
لم يكن ترامب أبدًا جمهوريًا محافظًا تقليديًا يمكن أن نفهمه من خلال فلسفته السياسية، بل إنه كان مجرد رجل استعراض مشهور. وبعد أن أقنع أقلية كبيرة من الناخبين بأنه وحده الذي يفهمهم وأنه هو الذي يمكن أن ينقذهم، قام بتحويل الحزب الجمهوري المعاصر من حزب سياسي إلى تيار يقوم على عبادة الشخصية.
يشترك قادة مثل هذه الحركات التي تقوم على عبادة الشخصية الزعيمة عبر التاريخ في عديد من الخصائص. إنهم نرجسيون يسعون إلى تسليط الأضواء عليهم والصراع ليكونوا مركز الاهتمام. إنهم يبرزون النجاح والقوة، ولا يعترفون أبدًا بالفشل أو الخطأ، ويستخدمون الفكاهة للسخرية من خصومهم وتحقيرهم.
إنهم يتمتعون أيضا بشخصية جذابة ومقنعة، كما إنهم يقنعون أتباعهم بأنهم هم وحدهم الذي يدركون مخاوفهم وانعدام الأمن، ويأبهون لها ويمكنهم معالجتها. ومن خلال التماهي مع أتباعهم، يقنع قادة هذه الحركات الموالين لهم بأن أولئك الذين يعارضونهم هم ألد الأعداء لهم.
كان جوهر خطاب دونالد ترامب أمام المؤتمر الجمهوري في عام 2016 صورة مظلمة تنذر بالخطر لأمريكا حيث كان الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقود أمريكا إلى «استعادة العظمة».
خلال الحملة والسنوات اللاحقة، طور ترامب هذه الموضوعات وعمّق هذا الالتحام بقاعدته الموالية له وأسس وحدد أعداء مشتركين وهم يشملون المكونات التالية: الديموقراطيون، والجمهوريون الذين عارضوه، والصحافة، والمحاكم، و«الدولة العميقة».
ظل دونالد ترامب في الفترة الماضية يكرر نفس الردود تقريبا على لوائح الاتهام التي تم الكشف عنها مؤخرًا وهو نفسه إلى حد كبير.
في الكلمة التي ألقاها في مؤتمر الحزب الجمهوري في ولاية جورجيا، بعد يوم واحد من إصدار لوائح الاتهام، أكد ترامب أن انتخابات 2020 سُرقت، واصفًا لوائح الاتهام على أنها «تدخل في الانتخابات»، و«مطاردة ساحرات»، وإساءة استخدام للسلطة. قال: «يحاول بايدن سجن خصمه الرئيسي... تمامًا كما يفعلون في روسيا الستالينية والصين الشيوعية».
وسعيا إلى التقليل من شأن التهم الموجهة إليه، ادعى ترامب أن جرائمه المزعومة باهتة وغير ذات أهمية مقارنة بما أسماه جرائم هيلاري كلينتون وجو بايدن.
توسعت قائمة أعداء ترامب وباتت تضم أيضا الماركسيين، ووكالات وأجهزة إنفاذ القانون التي يسيطر عليها الديمقراطيون، و «الطبقة السياسية المريضة التي تكره بلادنا» وتدافع عن «النظام الفاسد» الذي عقد العزم على تحطيمه.
بعد مثوله أمام المحكمة لأول مرة أمام حشد من المشجعين الموالين له، خطب يقول:
«إذا أفلت الشيوعيون من هذا، فلن يتوقف الأمر معي. لن يترددوا في تصعيد اضطهادهم للمسيحيين والنشطاء المؤيدين للحياة والآباء الذين يحضرون اجتماعات مجلس إدارة المدرسة وحتى المرشحين الجمهوريين في المستقبل. أنا الوحيد الذي يمكنه إنقاذ هذه الأمة».
يمكننا مناقشة تهم ومزاعم الاضطهاد التي يكررها دونالد ترامب اليوم، لكن لا يمكننا تجاهل سيطرته على جزء كبير من الحزب الجمهوري. على الرغم من لوائح الاتهام، استمرت التأييد من قبل المسؤولين المنتخبين الجمهوريين في الظهور. إنه زعيم طائفتهم، وهم يخشون مواجهته.
ستأخذ العملية القانونية مجراها، لكن الإدانة لن تقضي على دونالد ترامب أو حركته. إذا فاز في الانتخابات الرئاسية القادمة فإن أتباعه سيشعرون بنشوة ويعتبرون أنهم كانوا على حق. أما إذا خسر، فسيشعر أنصار ترامب بأنهم ضحايا وأنهم جاهزون للثورة على غرار ما فعلوه في السادس من شهر يناير 2021.
لقد ظل هذا التيار القائم على عبادة الشخصية ينمو ويزداد زخما على مدى عقود غير أن هذه الحركة لن تنتهي بهزيمة في الانتخابات أو بالإدانة في المحاكم. يجب الانتباه إلى أسبابها الجذرية - التي يجب معالجتها حتى تستعيد حياتنا السياسية عقلها ورشدها.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك