في عام 2023، تبدو دول الخليج «وجهة مفضلة»، للاستثمار الأجنبي المباشر، في ضوء العدد الضخم من المشاريع التي احتوتها رؤاها الاقتصادية المستقبلية، وتزايد الإيرادات النفطية من بعد عام 2021، فضلا عن الأجواء التصالحية في المنطقة، التي قادت إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، في نفس الوقت الذي ترتفع فيه درجة عدم اليقين ويسود الركود في الوجهات الرئيسية التقليدية لهذا الاستثمار، سواء في الصين، وشرق وجنوب شرقي آسيا، أو القارة الأوروبية، أو «الولايات المتحدة».
وتشير مقدمات العام الماضي إلى ارتفاع جاذبية المنطقة لاستقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2023، فقد احتلت «الإمارات»، المرتبة الـ19 عالميًّا في قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة، وذلك في تقرير الاستثمار العالمي 2022، الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد). وحققت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة للسعودية في الربع الأول لهذا العام زيادة بنسبة 9.5% عن نظيرتها في العام السابق، واستقبلت «قطر»، 19.5 مليار دولار في الربع الثاني لهذا العام، بنسبة 71% من إجمالي الاستثمارات الموجهة إلى منطقة الشرق الأوسط، وسجلت «سلطنة عُمان»، زيادة في استقبال الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 19% في الربع الأول لعام 2022، مقارنة بنظيره في 2021.
ووفقا لتوقعات المراقبين والخبراء، فإن قطاع الصناعة -الأكثر كثافة للطاقة- سيكون على رأس القطاعات الواعدة في اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر، بعد أن تأثرت إمدادات الطاقة للقارة الأوروبية. وتأتي مبادرات، مثل «الإقامة الذهبية»، والعديد من التسهيلات المتعلقة بالملكية، وسهولة أداء الأعمال، وتحويلات الأرباح، والإعفاءات الضريبية؛ كمحفزات تشجع على قدوم هذه الاستثمارات، إلى دول المنطقة.
ومع اتجاه رفع أسعار الفائدة في «الولايات المتحدة»، وارتباط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي بسعر ثابت، فإن سوق الودائع الثابتة والسندات، يبدو أيضًا جاذبًا لهذا الاستثمار. ومع التوجه الخليجي لتعزيز الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والأمن الغذائي، ومشاريع البنية التحتية -خاصة في الطرق السريعة والسكك الحديدية والجسور- ومشروعات الطاقة، والمشروعات السياحية والعقارية، تتسع الفرص أمام الشركات المعنية بتوجيه استثماراتها إلى دول الخليج، خاصة لدى الشركات الصينية العاملة فيها.
وفي اتجاه الترويج لهذه الفرص الاستثمارية استضافت «أبوظبي»، في مايو الماضي، ملتقى الاستثمار السنوي 2023، في دورته الثانية عشرة، تحت شعار «التحول في أوجه الاستثمار.. فرص الاستثمار المستقبلية لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والتنوع والازدهار»، وفيما كانت «الإمارات»، قد احتلت المرتبة الـ17 عالميًّا في عام 2022، لجهة استثماراتها الخارجية؛ فقد ركز هذا المؤتمر على المشاريع والمبادرات الحالية والمستقبلة، والتي تمثل «فرصا استثمارية» مستدامة، وإنشاء سلاسل توريد مرنة، وبنية تحتية جديدة، تواكب تطورات القرن الحادي والعشرين، مع تصاعد التوترات الاقتصادية والاضطرابات، وتحول وجهة الاقتصادات ببطء بعيدًا عن العولمة، بعد أن أدى ارتفاع التكاليف إلى إجبار الاقتصادات على إعادة التفكير في سياساتها في الأسواق الناشئة.
وبحسب التقرير الصادر عن الشركة العالمية للاستشارات الإدارية (كيرني)، غدت «الإمارات»، تصنف من الدول الأفضل عالميًا في مؤشر انخفاض كلفة تأسيس الأعمال، و«الثالثة» عالميًا بعد كل من «الصين»، و«الهند» في ثقة الاستثمار الأجنبي المباشر للأسواق الناشئة، مع استمرار اقتصادها في تحقيق وتيرة نمو إيجابية، تصل إلى 3.2% في 2023، و4.8% في 2024، خاصة بعد أن أطلقت «دبي»، «أجندة دبي 33»، بقيمة 8.7 تريليونات دولار؛ بهدف تعزيز التجارة والاستثمار، وترسيخ مكانتها العالمية، كمركز عالمي رائد للأعمال. يأتي هذا فيما احتلت «قطر»، المرتبة الرابعة، و«السعودية»، السادسة، في نفس المؤشر.
ووفقا لتقرير الاستثمار الأجنبي المباشر2023، الصادر عن مجموعة «فايننشيال تايمز» البريطانية، فقد احتلت «الإمارات»، المرتبة «الأولى» على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث عدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر التي استقبلتها خلال عام 2022، حيث استحوذت على 41% من هذه المشاريع، بعد أن جذبت 879 مشروعا، بنسبة نمو 71% عن عام 2021، وبلغت قيمة الاستثمارات الواردة 10.45 مليارات دولار، وبلغت فرص العمل الجديدة التي وفرتها هذه المشاريع 15%.
وعليه، لا يمكن تجاهل جهود «أبو ظبي» في هذا الصدد، حيث أتاحت إمكانية التملك الكامل للشركات بنسبة 100%، وفتحت 40 منطقة حرة لتأسيس الشركات، وكل مجالات النشاط الاقتصادي أمامها، مع إمكانية السيطرة على مجالس إدارات الشركات المساهمة، وعدم اشتراط وجود وكيل مواطن، وأتاحت التملك الكامل لكل الأشكال القانونية للشركات، دون اشتراط حد أدنى لرأس المال، ودون ضريبة دخل، وتحويل كامل الأرباح، وإقامة ذهبية للمستثمرين، مع سهولة التعاقد مع العمالة المهنية، ورسوم جمركية منخفضة، وحوافز مميزة للقطاع الصناعي.
من جانبها، وظفت «البحرين»، موقعها الاستراتيجي، وسياسات وإجراءات ملائمة، ومشروعاتها الكبرى في خطة التعافي الاقتصادي، وما لديها من عمالة ماهرة، وامتلاكها أكثر قطاعات الخدمات المالية رسوخًا في المنطقة -بإجمالي 367 مؤسسة مالية محلية وإقليمية ودولية، ما جعل الشركات العالمية العاملة في المنطقة تتخذ منها مقرًا إقليميًا لنشاطها- في استقطاب 1.1 مليار دولار في 2022، كما تسعى إلى أن تستقطب 2.5 مليار دولار عام 2023، مستثمرة تميزها في مجال التكنولوجيا المالية، حيث يعد خليج البحرين للتكنولوجيا المالية، مركز التكنولوجيا المالية الرائد في المنطقة.
ووفقًا لبنكها المركزي، استقبلت «السعودية»، نحو 8 مليارات دولار استثمارات أجنبية مباشرة في 2022، بنسبة زيادة 14.5% عن العام السابق. وكانت قد أطلقت في 2022 حزمة من المبادرات والاستراتيجيات التي تستهدف جذب الاستثمارات، كالاستراتيجية الوطنية للصناعة التي حددت 800 فرصة استثمارية بقيمة تريليون ريال، ومبادرة سلاسل الإمداد العالمية الهادفة إلى جذب استثمارات بقيمة 40 مليار ريال في 2023 و2024، وتوقيع العديد من الاتفاقيات، لاسيما مع الاقتصادات الآسيوية الكبرى، من بينها 35 اتفاقية مع الصين بقيمة 50 مليار دولار، ومع شركات في كوريا الجنوبية بنحو 30 مليار دولار، وبنهاية 2022، بلغ رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية 2403 مليارات ريال، فيما كان 857 مليار ريال في 2010.
ومع نهاية 2022، بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في «سلطنة عُمان»، نحو 48.4 مليار دولار. وقاد قطاع أنشطة استخراج النفط والغاز، والأنشطة العقارية، الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السلطنة بنهاية الربع الرابع لعام 2022، محققًا نموا بنسبة 10.5% عن نظيره في العام السابق. ومع نهاية الربع الرابع لعام 2022، سجل الاستثمار الأجنبي المباشر في نشاط استخراج النفط والغاز نحو 36.8 مليار دولار، ارتفاعًا من 31.63 مليار دولار عن مثيله لعام 2021. وطبقًا للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات، فقد ارتفع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في سلطنة عُمان لعام 2022 بنسبة 10.5% ليصل إلى 19.6 مليار ريال عُماني، مقارنة بـ 17.7 مليار ريال عُماني بنهاية 2021.
وبحسب تقرير الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2023، الصادر عن مجموعة «فايننشيال تايمز»، فإن كأس العالم لكرة القدم لعام 2022، في «قطر»، قد رسخ مكانتها اقتصاديًّا واستثماريًّا، فاحتلت المرتبة الأولى عالميًّا بين أفضل 50 وجهة للاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2023. وفي مايو هذا العام، كان انطلاق «منتدى قطر الاقتصادي»، في دورته الثالثة، والذي سلط الضوء على مستقبل الاستثمار الأجنبي المباشر في الأوقات الاقتصادية الصعبة، ومدى تأثره بالمخاطر والتحديات التي يعانيها الاقتصاد العالمي، ما أكد توجه الاستثمارات الأجنبية المباشرة ناحية الشرق والجنوب. ووفقا للتقرير السنوي لوكالة «ترويج الاستثمار القطرية»، جذبت «الدوحة»، استثمارات أجنبية مباشرة، بلغت نحو 30 مليار دولار في 2022، حيث تم إطلاق 135 مشروعا جديدا، ضمن مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر، ساهمت في خلق 13972 وظيفة، كما تم إطلاق أكثر من 800 مؤسسة تجارية.
وفي الوقت الذي تعاني فيه «الكويت»، من ضعف في حجم الاستثمارات التي تتدفق إليها، مقارنة بباقي دول الخليج، فإنها تخطط لزيادة فعالية استقطابها لهذه الاستثمارات، واتخذت خطوات طموحة لتطوير استراتيجيتها في هذا الشأن للفترة (2023/ 2024) – (2028/2029)، فيما بلغت قيمة الاستثمارات المتدفقة إليها في السنة المالية 2022، نحو 344 مليون دولار، بينما كانت في السنة السابقة عليها 530 مليون دولار. وطبقًا لبيانات «صندوق النقد الدولي»، تعد «قطر»، أكبر مستثمر أجنبي في الكويت، برصيد استثمارات بلغ 3.2 مليارات دولار.
بشكل عام، تشير مؤشرات عام 2023، إلى أن الاستثمارات الأجنبية في الاستحواذ، قد شهدت «نموًا قويًا»، في الربع الأول لعام 2023، حيث نجحت أسواق الشرق الأوسط بقيادة خليجية من «السعودية»، و«الإمارات»، في المحافظة على زخم الطروحات المحقق في عام 2022، واستحوذت أسواق المنطقة على 16% من إجمالي عائدات الاكتتابات المالية الأولية على مستوى العالم، وحصدت 3.4 مليارات دولار من خلال 10 اكتتابات، أكبرها طرح «أدنوك» للغاز، الذي يعد أكبر طرح أولي على مستوى العالم، كما شهدت سوق الاندماجات والاستحواذات نموا بنسبة 42% خلال الربع الأول من العام الحالي، منها 42 صفقة في الإمارات بقيمة ملياري دولار، وجاءت السعودية في المرتبة الثانية بصفقات بقيمة 1.7 مليار دولار، ثم الكويت 1.3 مليار دولار.
على العموم، فإنه في الوقت الذي ترتفع فيه المخاطر، وتزداد درجة عدم اليقين، واحتمالات الركود، ما يخلق صعوبات للاستثمار في الاقتصادات الكبرى؛ تزدحم حركة مرور هذه الاستثمارات نحو دول الخليج، مستفيدة بما لدى هذه الدول من قوة تمويلية ضخمة، سواء في صناديق الثروة السيادية، أو تراكم إيراداتها النفطية، أو من المشروعات التنموية الكبرى التي فتحتها للاستثمار الأجنبي المباشر. فمن بين مناطق العالم المختلفة، تأتي منطقة الخليج الوحيدة التي سجلت زيادات في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2022، إلى جانب النتائج الاقتصادية الإيجابية لهذا التدفق، وعلى رأسها زيادة التشغيل، واستيعاب التطورات التكنولوجية، والنتائج السياسية المرتبطة بتعزيز المكانة، وقوة التأثير في العلاقات الدولية، كما نرى حاليًا في عديد من الأزمات الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك