في الرابع عشر من يونيو2023 أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس في مؤتمر صحفي مع أربعة من وزرائه وهم الداخلية والخارجية والدفاع والمالية أول استراتيجية للأمن القومي لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية والتي تقع في 40 صفحة.
ومع التسليم بأن استراتيجيات الأمن القومي للدول تحدد أولوياتها الأمنية وقدراتها وسبل مواجهة التهديدات الأمنية فقد تضمنت تلك الاستراتيجية رؤية ألمانية شاملة لتلك التهديدات وقد كان لافتاً ثلاثة أمور أولها: إنه قبل العنوان الرئيسي للاستراتيجية وضعت ثلاث كلمات وهي: الدفاع والصمود والاستدامة كأولويات محددة لتلك الاستراتيجية أو بالأحرى كركائز أساسية لها، وثانيها: على الرغم من أن الاستراتيجية تهم كل مؤسسات الدولة الألمانية ولكن اختيار الوزراء الأربعة ذوي العلاقة المباشرة بتلك الاستراتيجية وهم الداخلية والخارجية والدفاع والمالية أمر ذو دلالة على الارتباط بين التهديدات الداخلية والخارجية وكذلك دور وزارة الخارجية في تنفيذ أهداف تلك الاستراتيجية، بالإضافة إلى المتطلبات المالية لتحقيق أهدافها وهو ما أشار إليه صراحة وزير المالية كريستيان ليندنر بالقول: «إن الحصص في الميزانية ستتغير بشكل مستدام»، وثالثها: تأكيد المصادر الحكومية في ألمانيا أنه سوف يكون هناك تقييم بشكل منتظم حول التقدم الذي حققته الاستراتيجية.
ومع أهمية ما سبق تكتسب مضامين الاستراتيجية أهمية بالغة وخاصة أنها جاءت في ظل ظروف دولية غير مسبوقة تتمثل في الحرب الأوكرانية وما رتبته من تحديات بالغة لمنظومة الأمن الأوروبي وخاصة في ظل تحدي أمن الطاقة للدول الأوروبية ومن بينها ألمانيا.
الإطار العام للاستراتيجية يحدد وبوضوح أهداف ألمانيا من إصدارها في ذلك التوقيت، وقد تمثل ذلك في ثلاثة أسس وهي الدفاع: وقد حددت الاستراتيجية المقصودة بها وهو تقوية الجيش وكذلك تطوير أجهزة الدفاع المدني وحماية البنية التحتية الحيوية ودعم قدرات الدفاع المدني للتعامل مع الكوارث، وقد لوحظ أنه عند حديث الاستراتيجية عن الدفاع بالإضافة للإشارة إلى العزم على تطوير القدرات الدفاعية والأمنية فقد كان هناك تأكيد للدفاع الجماعي في ذات الوقت وخاصة عضوية ألمانيا في حلف الناتو الذي جاء ترتيبه في الاستراتيجية قبل الاتحاد الأوروبي، من خلال بيان أن ألمانيا تؤكد دعمها للحلف كمظلة أمنية جماعية لأوروبا وبالتالي تؤكد التزامها بتخصيص نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي لنفقات الدفاع، مع التأكيد في الوقت ذاته دعم الاتحاد الأوروبي وتضامنه وتكامله وتأييد انضمام دول أخرى لعضويته مثل دول غرب البلقان: أوكرانيا، مولدوفا، وعلى المدى البعيد جورجيا، ويتمثل الأساس الثاني للاستراتيجية في الصمود: ووفقاً لاستراتيجية الدفاع عن قيم النظام السياسي والتصدي لمحاولات تقسيم العالم على أسس جديدة وفقاً للقدرة على التأثير، بالإضافة إلى تأمين الحصول على الطاقة للقضاء على التبعية في هذا الأمر، والعمل على تنويع مصادر التوريد، ووفقاً للاستراتيجية فإن هناك ضرورة لدعم الابتكار في الاقتصاد وكذلك البحوث العلمية ومواجهة تهديدات الأمن السيبراني، أما الأساس الثالث فهو: الاستدامة: ويقصد بها في الاستراتيجية مواجهة تأثيرات التغير المناخي من خلال خطط للتكيف مع تبعات تلك القضية، بالإضافة إلى مواجهة تحدي الأمن الغذائي من خلال نظم زراعية وغذائية مستدامة، وتطوير القدرة على الاكتشاف المبكر للأوبئة.
ومع أهمية ما ورد في الاستراتيجية وبعضها كان معلنا من قبل كسياسات ثابتة لألمانيا سواء دعم الناتو أو الاتحاد الأوروبي أو مواجهة تهديدات الأمن السيبراني فإن هناك ثلاثة مؤشرات مهمة يجب التوقف أمامها في تلك الاستراتيجية المؤشر الأول: الربط الواضح بين تحولات البيئة الخارجية وتأثيرها في الأمن الداخلي وما يتطلبه ذلك من ضرورة مشاركة كل الجهات في مواجهة تلك التحديات وهي نقطة محورية، أما المؤشر الثاني: بالرغم من أنها المرة الأولى في تاريخ ألمانيا أن تصدر مثل هذه الاستراتيجية والظروف التي أوجدتها الحرب العالمية الثانية لألمانيا في مجال التسلح فقد كان لافتاً أن الاستراتيجية لم تركز فقط على مسألة تعزيز القدرات العسكرية بل أقرت وبوضوح أنه من بين التهديدات الأمنية أيضاً مخاطر التهديدات السيبرانية وكذلك التغير المناخي وبرأيي أنه أمر له وجاهته حيث إن تلك التهديدات وخاصة السيبرانية قد أعادت ترتيب قوة الدول في العالم وفقاً لما تمتلكه من تكنولوجيا والقدرة على درء مخاطرها، أما المؤشر الثالث: فهو أنه لا يمكن الفصل بين التطورات الدولية الراهنة وخاصة الحرب في أوكرانيا ومضمون الاستراتيجية وخاصة لجهة التأكيد على مفهوم الاستقلالية في مجال أمن الطاقة، وفكرة التكامل سواء على الصعيد الداخلي بين جهود المؤسسات المختلفة أو على الصعيد الخارجي سواء من خلال حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي وهو ما أكده صراحة المستشار الألماني بالقول: «بالنسبة لنا يبقى الارتباط بالاتحاد الأوروبي والتحالف عبر الأطلسي أمراً مركزياً».
الاستراتيجية بها ربط واضح بين ثلاثة عناوين وهي: الهوية الأمنية، القيم والمصالح، البيئة الأمنية بما يعنيه ذلك من أن تلك الاستراتيجية ليست فقط مراجعة أمنية شاملة ولكنها تحول جوهري في مفهوم ألمانيا لأمنها القومي فقد كان هناك اعتقاد مفاده أن الحماية مؤكدة من خلال مظلة الناتو والاتحاد الأوروبي، صحيح أن الناتو لا يزال قوة الردع لأوروبا ومن بينها ألمانيا ولكن صدور تلك الاستراتيجية والحديث صراحة عن رؤية ألمانيا لقائمة من التهديدات يعني أن ثمة تغيراً تشهده البيئة الأمنية الأوروبية على نحو خطير يتطلب بالإضافة إلى أطر العمل الجماعي أيضاً رؤى أمنية وطنية للتعامل مع تلك المستجدات، من ناحية ثانية فإن تحديد قائمة من المصالح وترتيبها على هذا النحو يحدد الأولويات الأمنية وهو أمر ضروري لارتباط ذلك أيضاً بالقدرات المالية بما يعنيه ذلك من أنه لا يمكن تحقيق كل الأهداف في وقت واحد ، ومن ناحية ثالثة كان عنوان البيئة الأمنية لافتا لتأكيد أن الاستراتيجية وإن جاءت استجابة لتحديات محددة فإنها سوف تعمل في بيئة أمنية بها تحولات عديدة.
ومع أهمية ما سبق فقد أشارت الاستراتيجية في الوقت ذاته - ولو بشكل محدود مقارنة بالبيئة الأوروبية- إلى أن منطقة القرن الإفريقي وبعض الأزمات الإقليمية الراهنة مثل سوريا وليبيا تؤثر في أمن ألمانيا والدول الأوروبية سواء كملاذ لعمل الجماعات الإرهابية أو ما ترتبه تلك الصراعات من زيادة موجات اللاجئين لأوروبا، ومع أهمية ذلك فلم تكن هناك إشارة بشكل أكبر للسياسة الألمانية تجاه منطقة الشرق الأوسط والذي يعد جزءا لا يتجزأ من الأمن الأوروبي عموماً.
ومجمل القول تعد الاستراتيجية وثيقة مهمة لكونها تتضمن رؤية ألمانية شاملة لتهديدات الأمن القومي وكيفية مواجهتها.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك