لا تخلو كثير من العبادات والشرائع من أداء الحج، وحتى إن علماء الغرب اليوم يعترفون بالمنافع الكثيرة لرحلة لحج، ولكن كل على طريقته الخاصة، حيث إن الحج عندهم هو مجرد رحلة إلى مكان محدد كل عام أو كل عدة أعوام، حتى إن علماء النفس والعديد من الأطباء الذين يسهمون في علاج المتعافين من المخدرات والمسكرات ينصحون هذه الفئات بالذهاب في رحلة يطلق عليها (الحج)، وهي زيارة إلى مناطق معينة من الأرض من أجل التأمل والهدوء والتشافي وما إلى ذلك، اعتقادًا أن هذه الرحلة يمكن أن تعد وسيلة للشفاء من عديد من الأمراض، وكذلك فهي وسيلة لتعلم فنون الحياة والحفاظ على مستوى الطاقة، بالإضافة إلى أنها تعيد توازن الجسم، وتزيد من النشاط العقلي والعاطفي والجنسي. إن كان زيارة الأماكن الطبيعية يمكن أن تؤدي إلى ذلك، فكيف بزيارة بيت الله رب العالمين سبحانه وتعالى.
البرمجة والطاقة الإيجابية
يستغرب كثير من علماء الغرب الذين قاموا بدراسة السلوكيات التي تظهر على حجاج البيت الحرام بكل تلك الطاقة الإيجابية التي يظهرها المسلم بعد زيارته والانتهاء من موسم الحج، إذ وجد علماء البرمجة اللغوية العصبية أن أكثر ما ينهك الإنسان هو كثرة الهموم والمشاكل التي يتعرض لها في حياته، وهذه تعرف (بالطاقة أو الشحنات السلبية)، لذلك ينصحونهم بالقيام بعملية تفريغ لهذه الشحنة حتى يتمكن الإنسان من العيش بصورة أفضل، وعندما بحثوا عن أفضل وسيلة لتفريغ تلك الشحنة أشاروا إلى الاصطياف والسفر والسياحة، فإن ذلك يسهم بصورة كبيرة في تفريغ كل تلك الشحنات والتراكمات السلبية، وأن يستعيدوا نشاطهم وطاقتهم.
وفي الحج إلى بيت الله الحرام، وعلى الرغم من المشقة والتعب والجهد والصعوبات، إلا أن المسلم عندما يفرغ من المناسك يرجو من الله سبحانه وتعالى أن يعيده مرة أخرى لأداء كل تلك المناسك، وأن يعيده إلى هذا المكان مرات ومرات، فهل سألنا أنفسنا لماذا هذا الشعور؟
يقول بعض العلماء لأن الحج إلى بيت الله الحرام، بالإضافة إلى أنها عبادة مفروضة من الله تعالى، إلا أنها تعيد توازن النفس البشرية. ففي هذه الرحلة التي لا تتجاوز أسبوعًا من عمر زمن الحياة، إلا أنها تسهم بصورة مذهلة في تفريغ كل الشحنات والطاقات السلبية، ليس ذلك فحسب وإنما تعيد تعبئة النفس البشرية بالطاقة والشحنات الإيجابية، حتى تفيض النفس بذلك. وتعيد برمجة النفس البشرية ويزيد من النشاط العصبي للدماغ ويزيد من إفراز بعض المواد الكيميائية ما يسهم بصورة كبيرة في إعادة التوازن، كل هذا بسبب أداء رياضة التأمل، فأنت تتأمل وأنت جالس في صحن الحرم، تتأمل تلك الكعبة المشرفة، تتأمل أفواج الحجيج الذين يطوفون بالحرم، تتأمل البشر وهم يقفون في عرفة، كل ذلك يحدث أمام ناظرك، وتحدث كل تلك الأمور بتنظيم فائق القدرة، تحدث كلها في وقت واحد وفي زمان واحد، والجميع يسير بطريقة واحدة وبمنهجية واحدة.
ومن الأساليب التي وجدنا أنها يمكن أن تعيد التوزان في النفس البشرية ومن خلال البرمجة العصبية والتي تتجلى في موسم الحج، ما يأتي:
1. المحيط الإيجابي: عندما يكون المحيط والمجتمع كله منشغلاً بالتغيير والإيجابية فإنك حتمًا ستتأثر به، ففي موسم الحج وفي مكة المكرمة يمكننا أن نشاهد، وفي الحقيقة أن نستشعر تفاعل الجميع مع الأجواء المحيطة برغبة ذاتية في التغيير، دون إجبار أو ضغوط خارجية، بل تجد الأفراد يمارسون الصلاة والدعاء وبقية العبادات طواعية ومن غير إكراه، بل بكل خشوع، كل ذلك من أجل الطاعة والالتزام، فمن أمرهم بذلك؟ وكيف انصاع الجميع؟ وهذا يعني أن أجواء مناسك الحج تؤسس لنمط اجتماعي إيجابي، ينعكس على جميع أفراد المجتمع، لأنها تبدأ بهذه الفئة التي قدمت إلى هذا المكان وبالتالي فإنه ينبغي أن تذهب معهم إلى أوطانهم فيعيدوا بناء النفس.
2. دورة قصيرة لإعادة النشاط والفاعلية والتفاعلية: فئة من البشر يشعرون أنه لو كان موسم الحج أطول من هذا لكان أفضل، وذلك بسبب رغبتهم في الاستزادة من هذه الطاقة الروحانية الإيجابية التي يشعرون بها. إلا أنه يجب أن يكون مفهومًا أن الحج دورة قصيرة جدًا ومجهدة جدًا، وممتعة جدًا، إنها أيام فقط لذلك لا وقت فيها للعب والخمول والنوم والكسل، إنه وقت قصير، ولكن العمل فيه إنجازات عظيمة ولا تأتي إلا بالهمم العالية والنشاط والحيوية. إنها دورة قصيرة جدًا، بأهداف محددة، ومخرجات واضحة، ومنهج وبرنامج ريادي معلوم، تحوي محاورها أنشطة وأفكار وتمارين تهدف كلها إلى جهة واحدة لا تحيد ولم تحد منذ أن شرع الله سبحانه وتعالى الحج إلى بيت الله الحرام حتى اليوم. الحج دورة قصيرة وأيام معدودة إلا أن فوائدها الروحانية والإيجابية كبيرة جدًا.
3. التواصل مع الآخرين: في موسم الحج نلتقي بجميع سكان الأرض، وبجميع البشر مهما كانت لغاتهم وألوانهم وأصولهم ودرجة ثرائهم، نلتقي ببشر لا يعرفون العربية ولم ينطقوها، نلتقي ببشر ألوانهم لا تقارب ألوان بشرتنا، نلتقي ببشر أتوا إلى هذه الأرض المباركة وهم لا يملكون من حطام الدنيا إلا المبلغ الذي قاموا بتوفيره من أجل الوصول إلى هذه الأرض، ومن أجل طلب رضا الله سبحانه وتعالى. عندما تجلس في الحرم وتصلي وعندما تلتفت عن يمينك تشاهد وترى أن هذا الإنسان أتى من الشرق والذي على يسارك أتى من الغرب، فلا فواصل ولا طبقات، ولا أثرياء ولا فقراء، فتجلس مع هذا وتتحدث وتجلس مع ذلك فتتحدث، بكل أريحية ومن غير أي ضغائن، يجمعكم رب واحد ودين واحد، وفكر واحد. هذا التواصل وهذا الاتصال هو محور أساسي لهذا الدين، فالكل سواء أمام الخالق جل وعلا. فقد ترك الإنسان مفتاح مكتبه في وطنه وأتى إلى هنا من غير واجبات المسؤولية ومن غير مكتب فخم وحشم وخدم، أنت وحدك أمام الله وأمام كل هؤلاء البشر، ترى كيف سيكون شعورك، فإما أن تسهم كل هذه العوامل وهذه البيئة الإيجابية في الحفاظ على مستويات الطاقة لديك مرتفعة، وتقوم بتكوين روابط وعلاقات جديدة بينك وبين بقية البشر، وإما أن تعود إلى ما كنت عليه، فالقرار لك وحدك.
4. ممارسة الرياضة الخفيفة: في دراسة لجامعة هارفارد الأمريكية أثبت الباحثون أن المشي بسرعة معتدلة، بحدود 4 – 5 كيلومترات في الساعة، يؤدي إلى تخفيض الإصابة بأمراض القلب بنسبة 40% عند النساء والرجال على حد سواء. وأكدت الدراسة أن المشي يحسن التنفس عند الإنسان، ويعزز نظام المناعة، ويقضي على الكآبة، ويساعد على الوقاية من نخر العظام، ويساعد على التخفيف من مرض السكر، كما يساعد على السيطرة على الوزن الزائد. حتى إن العلماء بأمريكا بدأوا ينصحون الناس بالمشي بدلاً من استخدام السيارات لأن نسبة الناس ذوي الوزن الزائد تجاوزت 40%، ويؤكدون أن الوزن الزائد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمراض القلب ومرض السكر، ويؤكد التقرير الصادر عن مركز السيطرة على الأمراض بأن أفضل أسلوب لحياة الأمريكيين هو المشي.
ويمكن أن نلاحظ أن المشي أمر أساسي في موسم الحج، فنحن نطوف حول الكعبة ونسعى بين الصفا والمروة مشيًا على الأقدام، علمًا أن طول الشوط الواحد للطائف المحاذي للكعبة تمامًا 70 مترًا، وذلك يعني أن أطوال الأشواط السبعة مجتمعة تبلغ نحو نصف كيلو متر أي 490 مترًا، وإن كانت دورة الطائف حول الكعبة أكثر بُعدًا عنها بسبب الزحام فإن طول الشوط يزداد شيئًا فشيئًا، حتى يصل إذا ما حاذى الطائف الرواق إلى نحو 200 متر للشوط الواحد.
أما المسافة بين الصفا والمروة فإنها تبلغ حوالي 400 متر للشوط الواحد، لذلك فإن المسافة التي يقطعها الحاج بين الصفا والمروة تبلغ كلها حوالي 3 كيلومترات.
5. التطلع إلى بناء إنسان جديد: من يرغب في بناء نفسه وترك كل العادات السلبية التي يستشعر أنها سلبية يمكنه ذلك من خلال هذا التوجه الإيجابي لدورة حج بيت الله الحرام، فأنت إنسان حر، يمكنك التوجه إلى الإيجابية بكل ما ترغب ويمكنك أن تركن وتبقى في السلبية، فلا يجبرك أحد على شيء، فالحج وما يجري في هذا الموسم علاقة خفية بينك وبين خالقك لا يعرف أحد ماذا تفعل في الخفاء، فيمكن أن تدعي أنك تعبد وتدعو الله ولكنك في الخفاء لا شيء، إنها علاقة بينك وبين الله، وهنا نرتقي بالإنسان إلى مرتبة الإحسان «اعبد الله كأنك تراه»، فإن لم تبلغ مرتبة الحساسية والشفافية والشعور إلى هذه المرتبة فاعلم «فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
فعندما يبلغ الإنسان مرتبة الإحسان، فإن كل أعماله تتغير، فيصبح إنسانًا جديدًا، يتعامل مع كل المعطيات وكل العلاقات البشرية والأخلاقية بهذه الشفافية، عندئذ تتغير حياته طوال السنة وبطريقة مستدامة.
6. توافق مع نظام الكون: كل شيء في هذا الكون يدور ويطوف حول مركز محدد، فالإلكترونات في الذرة تدور حول النواة، والكواكب تدور حول الشمس، والنجوم في المجرة تدور حول مركز المجرة، والمجرة تدور حول مركز لتجمع المجرات وهكذا، فلو تأملنا هذه الدورات نلاحظ أنها –غالبًا– تتم من اليسار إلى اليمين، وسبحان الله لو تأملنا حركة الحجاج حول الكعبة نلاحظ أنها تتم بنفس الاتجاه أي من اليسار إلى اليمين، وكأننا عندما نطوف حول بيت الله إنما نتناغم مع حركة الكون كله، فكل شيء يسبح بحمد الله ويمتثل أمره ونحن في طوافنا نسبح بحمد الله ونمتثل أوامره، وهذا يعلمنا الصبر والخضوع لله تعالى ويعلمنا التواضع أيضًا.
وعلى الرغم من بعض المنغصات من سلوك بعض الحجاج، فإن موسم الحج يعد موسما عظيما، وإعادة الطاقة والتوزان الإيجابي للنفس البشرية، بالإضافة إلى أنه عبادة رائعة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك