في أعقاب الاضطراب العالمي الناجم عن اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022، بدا واضحًا اهتمام الدول الغربية بالحاجة إلى ضمان أمن الطاقة بشكل أفضل، بعد أن باتت تتبوأ صدارة السياسة الخارجية والاقتصادية. ومع اعتماد كثير من دول أوروبا على وجه الخصوص على صادرات النفط والغاز الطبيعي والفحم من روسيا، التي برزت بشكل كبير باعتبارها نقطة ضعف استراتيجية رئيسية؛ كانت هناك جهود ملموسة من هذه الدول لتنويع مصادر الطاقة، وتشكيل شراكات جديدة مع مصدري الطاقة في جميع أنحاء العالم.
وفي إشارة إلى هذا التحول الديناميكي، كان هناك تنافس للوصول إلى العدد المحدود من مصادر الطاقة الموثوقة، الذي تضمن العديد من الزيارات من قبل القادة الأوروبيين لدول مجلس التعاون الخليجي؛ ما مثل حقبة جديدة من التعاون في مجال أمن الطاقة بين الجانبين. ونظرًا إلى أن الاستراتيجيات الأوروبية طويلة الأجل تجاه أمن الطاقة لا تشمل فقط الحاجة قصيرة الأجل إلى الطاقة التقليدية من الشرق الأوسط لتعويض الانخفاض السريع في الواردات من روسيا، ولكن أيضًا التركيز المتزايد على مصادر الطاقة المتجددة، فقد أثيرت العديد من الأسئلة حول استدامة مثل هذه الشراكات.
ومع كون دول الخليج بالفعل رائدة في مجال البحث والتطوير لمنتجات الطاقة الخضراء، مثل الهيدروجين -في ضوء إشارة كيت دوريان، من معهد دول الخليج العربي، إلى أن هناك إمكانات هائلة لتوليد الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح في المنطقة- فإنه توجد بالتأكيد سبل لتوثيق التعاون بين دول الخليج وأوروبا في هذا المجال. وتأكيدًا لهذا التحليل، رأت سينزيا بيانكو، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أنه يجب على أوروبا الآن تطوير إطار عمل استراتيجي جديد للتعاون في مجال الطاقة مع أعضاء مجلس التعاون الخليجي. ومع إشارتها إلى أن حرب أوكرانيا قد تركت أوروبا في وضع جيوسياسي ضعيف، فقد أوضحت أنه من الأهمية، أن تتبنى نهجًا جديدًا للتعاون في مجال الطاقة مع دول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ما يعزز المصالح المشتركة للسلام والاستقرار والازدهار.
وللقيام بذلك، أوصت صانعي السياسة الأوروبيين بالاهتمام بشكل كبير بمقاييس كفاءة الطاقة، والكهرباء، وتعزيز الطاقة المتجددة، والاقتصاد الدائري للكربون، بالإضافة إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية عبر عقد سلسلة من المؤتمرات والتجمعات الدولية، حول حماية المناخ، وخفض الانبعاثات بالشرق الأوسط خلال النصف الثاني من العام الجاري.
وفي إدراك لأهمية هذه القضية، أشارت إلى كيف كان الاتحاد الأوروبي، قبل فبراير 2022، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مصادر الطاقة من روسيا، حيث تأتي 45% من إجمالي واردات الغاز الطبيعي منها، كما كانت أيضا أكبر مورد للمنتجات البترولية، بما يبلغ مجموعه 91 مليون طن في عام 2021، فيما استورد التكتل ما يقرب من نصف حاجته من الفحم منها.
وفي حين اتخذت دول أوروبا إجراءات سريعة لحجب صناعة الطاقة الروسية بعد الحرب الأوكرانية، وحظرت لاحقًا منتجاتها النفطية، وانضمت إلى الجهود الغربية الأوسع لفرض حد أقصى لسعر صادراتها من الطاقة؛ فقد أثارت تلك الإجراءات مخاوف جدية بشأن أمن الطاقة الأوروبية في المستقبل. وعلى الرغم من ارتفاع واردات الاتحاد الأوروبي، عبر خطوط الأنابيب من أذربيجان، والنرويج، بشكل كبير في عام 2022، فقد أوضحت الوكالة الدولية للطاقة أنه قد يواجه عجزًا في الغاز الطبيعي يبلغ حوالي 57 مليار متر مكعب في عام 2023، ما يجعل هناك ضرورة لبذل المزيد من الجهود لإيجاد مصادر بديلة للطاقة خارج محيط أوروبا.
وفي إطار هذا الواقع، بدأت الدول الأوروبية بالفعل تتجه نحو دول الخليج، التي أشارت بيانكو إلى أنها تقدم حالة اختبار جيدة، لمزايا التحول بعيدًا عن النفط والغاز الروسي. وسجل برنامج متعقب صفقات الطاقة، التابع للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كيف وقعت دول الاتحاد الأوروبي، مثل (فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، وبولندا، والمجر، واليونان، والنمسا)، اتفاقيات مع كل من (السعودية، والإمارات، وقطر، والبحرين، وسلطنة عُمان)، منذ فبراير 2022، مع التركيز على الدوحة بشكل خاص باعتبارها رائدة في توسيع علاقات أمن الطاقة بين الاتحاد الأوروبي والخليج في مجال الغاز الطبيعي.
وتحقيقا لهذه الغاية، توصلت ألمانيا إلى اتفاق مدته 15 عامًا لصادرات الغاز الطبيعي المسال في نوفمبر 2022، ووافقت شركة توتال إنرجيز الفرنسية أيضًا على تعاون بقيمة 1.5 مليار دولار مع شركة قطر للطاقة في أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، وهي خطوة اعتبرتها شبكة دويتشه فيله ستساعد في دعم إمدادات الغاز على المدى المتوسط إلى أوروبا.
وأضافت صحيفة لوموند أن الإمارات هي الآن ثاني أكبر مزود للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا بعد الولايات المتحدة، حيث قدمت 16% من إمدادات القارة العام الماضي.
وفي حين أقرت بيانكو بأن هذه الصفقات تُظهر الإمكانات الكبيرة لتعزيز العلاقات في مجال أمن الطاقة بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، فقد أشارت إلى أنه لكي يتم نقل هذا التعاون والاتفاقات إلى الممارسة الفعلية، لا تزال هناك العديد من العقبات الرئيسية، التي يجب مواجهتها، ولعل أكثرها إلحاحًا ما يتعلق بانتقال الطاقة من الاعتماد على الوقود التقليدي إلى الطاقة المتجددة، والتي لطالما كان الاتحاد الأوروبي داعيا رائدًا لهذا الانتقال.
وفي هذا الصدد، أشار تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، التابعة للأمم المتحدة، إلى أن جهود الحد من الانبعاثات العالمية الحالية غير كافية للحفاظ على عدم تجاوز مستويات الاحترار درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وأن أنماط الطقس الأكثر سوءًا من المتوقع أن تجبر الاتحاد الأوروبي على تحقيق أهدافه، جنبًا إلى جنب مع الاقتصادات المتقدمة الأخرى، الخاصة بخفض مستويات الانبعاثات والحد من الآثار المدمرة لارتفاع درجات الحرارة العالمية، فضلا عن أن توجهه للتعاون مع مناطق أخرى لتعزيز مصادر الطاقة المتجددة، بات أمرا ضروريا.
وبناء عليه، رأت بيانكو أنه بالإضافة إلى تلبية احتياجات الاتحاد الأوروبي لأمن الطاقة يجب أن يساعد النهج الجديد للعلاقات الاستراتيجية مع الخليج في تحقيق أهدافه المناخية، مع الحفاظ على تركيزه القوي على تسريع الانتقال إلى مرحلة ما بعد الوقود الأحفوري.
وفي حين أن دول الخليج لا تزال من بين المنتجين والمصدرين الرئيسيين للوقود التقليدي، وعلى الأخص النفط الخام والغاز الطبيعي المسال، فقد لاحظت مجلة الإيكونوميست تحركًا حقيقيًا من قبل أعضاء مجلس التعاون الخليجي، مثل السعودية، والإمارات، نحو التخلص من الانبعاثات الكربونية، والاتجاه نحو إنتاج الطاقات المتجددة، ولا سيما الهيدروجين، حيث افتتحت الأخيرة بالفعل أول مصنع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في الشرق الأوسط عام 2021. وبشكل عام، تمت الإشارة إلى أن دول الخليج تمتلك أيضا الموارد المالية اللازمة لتلبية الاستثمارات الكبرى المطلوبة لتمكين انتقال الطاقة، بالإضافة إلى توفر الخبرة الفنية، والوصول إلى أرخص طاقة شمسية عالميًا.
ووفق هذا المعنى، أشار داود أنصاري، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إلى أن إنتاج معدلات عالية من الطاقة الشمسية مع وجود الأراضي الوفيرة يمنح دول الخليج ظروفًا ممتازة لإنتاج طاقة الهيدروجين الأخضر. وأضافت دوريان أن هذه الدول من حيث توافر اللوجستيات اللازمة لإنتاج الطاقة النظيفة تتمتع بميزة على كل من الولايات المتحدة وأوروبا في توليد طاقة الرياح. وبينما في الغرب قد يستغرق الحصول على تصاريح لبناء مزارع رياح سنوات طوالا -وغالبًا ما تواجه تلك المشروعات معارضة من المجتمعات المحلية الداخلية- فإنه في الشرق الأوسط لا توجد عادةً مثل هذه العقبات. وفيما يتعلق بإنتاج طاقتي الرياح والشمس، أشار دوريان إلى أن الصحراء الشمالية الغربية للسعودية وجنوب عمان تتمتع بظروف مناسبة من حيث توافر الأراضي، والبيئة، والمنشآت لإنتاج الرياح على نطاق واسع.
ومثلما تُعد دول الخليج شركاء محتملين أقوياء لأوروبا بناءً على إمداداتها الحالية من الوقود الأحفوري وزيادة الإنتاج المستقبلي للطاقة المتجددة، فقد رأت بيانكو أنه في الجانب الآخر يجب أن يكون الأوروبيون شركاء مهمين لهذه الدول؛ لأنهم بذلك لا يستهدفون فقط أكبر سوق لصادرات الطاقة الخضراء، بل أيضا تحقيق شراكة قادرة على زيادة حجم تجارة الطاقة مع القارة الأوروبية بصورة تقلل من اعتماد الخليج على صادراته إلى آسيا -وعلى الأخص الصين– وهي الدولة التي أشارت إلى أن روسيا استهدفتها بقوة لتعويض نقص الطلب الخاص بوارداتها من الطاقة.
وحول كيفية تعزيز التعاون في مجال الطاقة بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، أشارت إلى أن تحسين كفاءة الطاقة، وإنتاج الكهرباء، كانا جوهر المشروعات السابقة بين كلا التكتلين. وفي حين بدأت الأخيرة في تبني المبادئ التوجيهية الخاصة بالبنية التحتية للطاقة -المتعلقة بأنظمة العزل للانبعاثات الكربونية وتحسين كفاءة الطاقة- لا يزال هناك مجال للتطوير، وهي مسألة يمكن أن تكون المعرفة والخبرة الأوروبية فيها ذات جدوى لا يستهان بها.
وبالإشارة أيضًا إلى احتضان الخليج مفهوم الاقتصاد القائم على تدوير الكربون -حيث يتم تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون، وإعادة تدويره في إنتاج الطاقة المتجددة- أشارت بيانكو إلى امتلاك العديد من الدول الأوروبية وسائل تكنولوجية متقدمة لاحتباس ثاني أكسيد الكربون، كمادة معدلة هندسيًّا صديقة للبيئة، ويمكن استخدامها في صناعة أبرز مواد البناء، مثل الأسمنت كثيف الكربون، وهو ما يمكن أن يساعد مستقبلا في خفض مستويات الانبعاثات من خلال تبني استراتيجيات البناء الأخضر المستدام الرامي إلى خفض البصمة الكربونية في صناعة البناء بشكل هائل عالميًا.
وعلى الرغم من اعترافها بأن الاختلافات السياسية والآيديولوجية في الوقت الحالي لا تزال أكبر العقبات أمام التعاون الاستراتيجي طويل الأجل في مجال الطاقة، بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، فقد أشارت إلى أن قمة مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية، بشأن تغير المناخ كوب-28، التي ستستضيفها الإمارات نهاية العام الجاري، تعد فرصة مناسبة للمسؤولين من كلا الجانبين للتركيز على الطريقة العملية لتسريع وتيرة التحول الأخضر.
على العموم، فإنه مع أسس التعاون في مجال أمن الطاقة بين الكتلتين، المنصوص عليها في بيان الشراكة الاستراتيجية للمفوضية الأوروبية–الخليجية، الصادر في مايو 2022، تؤكد بيانكو أن هذا التعاون يحتاج الآن إلى الانتقال من المحادثات حول الاحتياجات التكتيكية، إلى إطار التعاون الاستراتيجي؛ لتعزيز تلك الشراكة، والذي لن يشمل فحسب معالجة حاجة أوروبا الملحة إلى مصادر طاقة أكثر تنوعًا، لكن أيضًا مناقشة القضايا الأطول أجلاً المتعلقة بتحول الطاقة وتعزيز المصادر المتجددة لإنتاجها.
ولتحقيق ذلك، حثت صانعي المسؤولين الأوروبيين على تكثيف جهودهم الدبلوماسية في الخليج، بشأن التقليل من الانبعاثات الكربونية، وتنظيم كفاءة الطاقة، وتعزيز النهوض بآليات تطوير مصادرها المتجددة. وتأكيدًا لضرورة تعامل بروكسل الأوروبيين مع قمة كوب28 نوفمبر القادم، باعتبارها محفزا لرفع مستوى علاقاتهم في مجال الطاقة مع دول الخليج، أوضحت أن هذا سيسمح لأوروبا والخليج بتجاوز الانقسامات الآيديولوجية، ومعالجة الاحتياجات الأوروبية بشأن الطاقة وأمن المناخ على حد سواء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك