شكلت اتفاقية التراث العالمي التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو عام 1972م، فكرة نابضة ومستدامة للمحافظة على التراث العالمي وفق لوائح دولية وقانونية.
وقد عرفت تراث الإنسانية بشكل محافظ جدًا ومحدود تحت عنوانين: التراث الثقافي والتراث الطبيعي، وهدفت الاتفاقيـة إلى حماية وحفظ ووقاية ونقل التراث الثقافي والطبيعي ذي القيمة العالمية البارزة إلـى الأجيال القادمة، ويمكن لصون التراث العالمي أن يسهم بشكل كبير في حماية البيئة، ثقافتها، وتنوعها الطبيعـي والتفاعلات بين الأفراد والبيئة؛ لذا برزت صورة متوازنة لتراث الإنسانية وهي التراث المشترك، والذي يشتمل على مجموعة متكاملة من المنظومة البيئية الطبيعية، والاجتماعية، وجميع أساليب الحياة من معتقدات دينية وثقافية تلامس حياة البشرية بشكل مباشر، وفي هذا الصدد فإن الموارد والمواقع الطبيعية في أي بلد تعدُ من جملة التراث العالمي الطبيعي، والتي تنص الاتفاقية على حمايتها وصونها لما تمثله من قيمة ثقافية شاهدة على التفاعل بين الطبيعة والإنسان، ولعل قضية المحافظة على التراث الإنساني بمفهومه الحالي، يعدُ من أهم إيجابيات الألفية الثالثة نحو حماية أكثر للحضارات والثقافات لجميع دول العالم من دون استثناء، وبموجب المرسوم رقم (3) لسنة 1991، انضمت مملكة البحرين إلى اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، ووفق انضمام مملكة البحرين إلى هذه الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام في دورته السابعة عشرة بباريس عام 1972م، فإنه يعني «التراث الطبيعي بالمعالم الطبيعية المتألفة من التشكلات الفيزيائية، أو البيولوجية، أو من مجموعات هذه التشكلات، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة النظر الجمالية، أو العلمية، والتشكيلات الجيولوجية، والمناطق المحددة بدقة مؤلفة موطن الأجناس الحيوانية أو النباتية المهددة، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم، أو المحافظة على الثروات، والمواقع الطبيعية أو المناطق الطبيعية المحددة بدقة، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم، أو المحافظة على الثروات أو الجمال الطبيعي».
تتمتع مملكة البحرين بمنظومة زاخرة من موائل البيئة البرية والبحرية، والتي تشكل مجموعة متنوعة من عناصر وموارد مهمة من التراث الطبيعي، ونظرًا إلى حرص المملكة بالمحافظة على تراثها الطبيعي، فقد شرعت في إنشاء المجلس الأعلى للبيئة الذي يعنى بالتراث الطبيعي وحمايته من التهديد بالانقراض والنادرة، ويتمثل التراث الطبيعي في المملكة من السواحل البحرية والجزر والمحميات الطبيعية النباتية أو الحيوانية ذات التنوع الإحيائي المنفرد، لذا فإن مكونات التراث الطبيعي البحريني هي ركائز وأرصدة تنموية واعدة، وخاصة للقطاع السياحي التي تعدُ مقومات جذب تشجع السّياح على زيارة المواقع التي تحوي هذه الكنوز الطبيعية، وبالتالي فإنها تسهم بقيام أنماط سيًاحية بيئية متعددة مثل سّياحة المواقع الصحراوية والتعرف على بيئاتها وحيواناتها، وكذلك سّياحة التأمل في الطبيعة ومراقبة الحيوانات والنباتات، وكذلك سياحة مراقبة الطيور وتربيتها، وبما أن مملكة البحرين تشتهر بأنواع كثيرة من الطيور، والتي يقدر مجموع عددها المرصود حوالي (232) نوعًا بعضها طيور مقيمة وبعضها طيور عابرة مهاجرة؛ لذا فإن هذا التنوع في الطيور بحد ذاته يمكن استثماره وتحويله إلى رصيد سياحي مستدام، خاصة أن هواية تربية الطيور في المجتمع البحريني والعناية بها، تمارسها فئة لديها معرفة ومهارات كبيرة حول الطيور على مختلف أنواعها، وعليه فقد أولت مملكة البحرين اهتمامًا خاصًا بالموارد الطبيعية بالبيئة بعناصرها كافة لما تمثله من ثروة وطنية مستدامة.
وأيضا فإن المحميات الطبيعية ذات التنوع الحيوي الفريد في أنظمتها البيئية تعد أهم الثروات الطبيعية، التي تمتلكها مملكة البحرين، والتي تمثل أهم المواطن الطبيعية النباتات والكائنات الحية بالمملكة، وقد بدأت المملكة بإنشاء عدد من المحميات الطبيعية إيمانًا منها بأهمية صون التنوع الحيوي وحمايته من التدهور الناتج عن الاستخدامات البشرية، فكانت محمية العرين أول محمية طبيعية، تلتها محمية رأس سند، بخليج توبلي، ومحمية جزر حوار والمياه المجاورة لها، ومحمية مشتان والمياه المجاورة لها، ومحمية دوحة عراد، وأخيرًا محمية الهيرات الشمالية وهير بو نجوى (مراقد اللؤلؤ)، إن المحميات الطبيعية بأنواعها المختلفة ضرورة من ضرورات الحياة على كوكب الأرض، نظرًا إلى أهميتها في صون الطبيعة والحياة الفطرية ومعالم وآثار الحضارات القديمة التي تتميز بها مواقع كثيرة من العالم الذى نعيش فيه، وعلى ضوء ذلك فقد أولت مملكة البحرين الذي اهتمت بهذا الإرث الثقافي الطبيعي الذي يمثل حضارة المملكة، وخاصة فإن المحافظة على التنوع الحيوي هو في حد ذاته حفظ للثقافة والحضارة وتحقيق التنمية المُستدامة، وجعلها موردًا مستدامًا للدخل الوطني؛ حيثُ إن الغرض من إنشاء المحميات الطبيعية هو جني فوائدها المتعددة بكونها حافظة البيئة ودعامة حياة الإنسان ورفاهيته.
وكذلك تعد الأنظمة الزراعية أهم الكنوز البيئية، والتي تعد مطلبًا أساسيًا لضمان استدامة التراث الطبيعي لمحيطنا الحيوي، والحفاظ عليه من التدهور الذي سيتبعه تدهور في البنية الأساسية للمجتمع جراء انحسار تلك الثروة الوطنية التي تعد إحدى أهم دعائم الثروة الطبيعية والتراثية للمملكة؛ لذا فإنه يجب العمل على إيجاد برامج تطويرية للمساهمة في تحسين طرق الإنتاج الزراعي، وتحقيق الأمن الغذائي، بتكاثف مؤسسي ومجتمعي لتذليل المعوقات التي تواجه هذا القطاع المهم، وذلك من أجل الحفاظ على المساحات الزراعية المتبقية قدر الإمكان، وخاصة ثروة النخيل التي اشتهرت بها مملكة البحرين «بلد المليون نخلة»، وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من (100) صنف من نخيل الرطب في البحرين تختلف في حجمها ولونها وجودتها وانتشارها وموعد نضجها، وقد شكلت أهمية تاريخية وثقافية مهمة في حياة الشعب البحريني، والتي سيكون لها دور مهم في تنشيط السّياحة البيئية وأنماطها، وخاصة السّياحة الخضراء القائمة على المساحات الخضراء، والشائعة في كثير من البلدان المروجة للسّياحة البيئية. كذلك فإن المملكة تشتهر بعدد من الجزر الطبيعية، والشعاب المرجانية الطافية على سطح الماء تسمى محليًا بـ«الفشوت» التي تمتاز بثروات طبيعية وبيئية حساسة ونادرة ومميزات سياحية جاذبة؛ لذا فإنه يمكن تنميتها وتوظيفها في السّياحة المستدامة النظيفة غير المدمرة والإبقاء على ما نملكه من ثروات طبيعية للأجيال المستقبلية.
يشكل التراث الطبيعي والثقافي مرتكزًا مهما في تحقيق التنمية المستدامة، وخاصة التنمية السياحية، وقد أقرت منظمة السياحة العالمية (OMT)، بأن التراث والثقافة أصبحا يكونان (40) في المئة تقريبًا من أهداف كل الرحلات التي تعبر الحدود بين الدول؛ لذا نرى أن الدول التي نجحت في استثمار مواردها الطبيعية والتراثية أصبحت وجهات سياحية مميزة، ونؤكد أن تثمين واستثمار موارد التراث الطبيعي والثقافي التي تزخر بهما المملكة، لا يزال محدودًا مقارنة بحجم ما نملك من مقومات ومرتكزات طبيعية، مثل الجزر الطبيعية وما تزخر به من محميات نباتية وحيوانية ذات نوعية فريدة على مستوى العالم. ما يستدعي بذل المزيد من الجهود المؤسسية والمجتمعية، وذلك بهدف جعل التراث الطبيعي والثقافي محركًا للتنمية الاقتصادية والسياحية للمملكة؛ لذا فإن تنمية المواقع الطبيعية وتطويرها سياحيا، يبدأ من العمل على تعديل السلوك البشري بما يتوافق مع الاعتبارات البيئية وأحداث التنمية والتوعية من خلال تثقيف الأفراد تجاه البيئة والسّياحة معًا؛ وتنمية الوعي البيئي والسياحي لجميع فئات المجتمع، عن طريق العمل على زيادة إلقاء المحاضرات والندوات التي لها أثر في تنمية الحس الوطني تجاه البيئة ومقدراتها، وعلى سبيل المثال المبادرات البحرينية الواعدة والمهتمة بالتنوع الثقافي في جميع المجالات الأساسية لبناء المجتمع «مبادرة وهج» وبالتعاون مع هيئة البحرين للثقافة والآثار، والتي تناولت الأوضاع البيئية في المملكة عبر العديد من الفعاليات والمحاضرات، أولها الجلسة الحوارية التي أقيمت مؤخرًا بعنوان «كوكبنا وتحولاته البيئية» و العديد من المحاضرات القادمة مثل «تعزيز الوعي حول التصحر في مملكة البحرين» و«الثقافة البحرية بين الماضي والحاضر» ومنا هنا تبدأ الدعوة الفاعلة إلى تأسيس طاقة مجتمعية مشاركة في صياغة وتنفيذ مراحل عمليات التخطيط للمحافظة على المواقع الطبيعية المشتركة، ودعم الوعي البيئي والتعليم للناشئة والمجتمع، وتفعيل دور المشاركة المجتمعية الإيجابية.
إن من أهم عوامل النجاح لمشاريع الحفاظ والتنمية المستدامة لأي موقع تراثي طبيعي هو التركيز على الأبعاد الأساسية للتنمية المستدامة، ومن الأبعاد التي تعطي المشاريع استدامة هي المحافظة على الثقافة المحلية التقليدية والقيم بأنواعها وتفعيل بارز لدور الشراكة المجتمعية، ومملكة البحرين إحدى هذه الدول التي تأخذ في الاعتبار الأبعاد والأسس الأخلاقية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية، وذلك من خلال حماية الموارد الطبيعية والاجتماعية والثقافية، والعمل على تعزيز إنتاجيتها ونشر الثقافة البيئية بشكل مُستدام خاصة في المناطق المحمية؛ ما يسهم ذلك من الحد من زيادة الاستنزاف وهدر الموارد الطبيعية بشكل مفرط، إلى جانب العمل على توفير مصدر مهم للدخل الوطني ودعمه، وإيجاد فرص العمل لفئات المجتمع البحريني والمحافظة على الموارد التراثية الطبيعية منها والثقافية وخصائصهما للأجيال المستقبلية.
وأخيرًا، فإن التراث الطبيعي هو ثروة وطنية ذات بعد ثقافي وحضاري بمختلف عناصره ومكوناته الطبيعية والثقافية، ورأسمال تنموي يمكننا استثماره وتوظيفه في عديد من المجالات والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد السياحي الذي يعدُ المستهلك الأول للتراث بجميع أشكاله الطبيعية والثقافية، وإن الإسهام في الحفاظ على جمال الموقع الطبيعي يكسبه صفة تنموية مُستدامة، في حال تم الحفاظ على الموارد الطبيعية فيه والإبقاء على صلاحية إنتاجيتها الطبيعية؛ لذا فإن المحميات تعدُ من أهم الوسائل الوقائية لحماية الوسط الطبيعي لمملكة البحرين من التلوث بأنواعه، والتدهور البيئي والنمو السكاني المتزايد الذي يسبب الضغط على الموارد الطبيعية، ما يؤدي إلى فقدان التراث الطبيعي والثروة المحلية للمجتمع، وتمثل المحميات الطبيعية في مملكة البحرين مواقع مهمة ذات قاعدة مستقبلية لجذب السّياحة البيئية المحلية والدولية، نظرًا إلى حمايتها للبيئة الطبيعية الفطرية في جميع المواقع التي يقصدها السّياح، ولاسيما المواقع الطبيعية التي لم تتغير ملامحها جراء أنشطة الإنسان التي طالت العديد من المناطق الطبيعية، وبالإضافة إلى تميز محميات المملكة بأنماط مختلفة في الأنظمة البيئية تجعل منها مواقع جاذبة للسّياحة، حيثُ إنه يمكن استثمارها إذا ما تم الحفاظ على المقومات الطبيعية، وتوظيف الاستغلال الأمثل للمقومات الطبيعية التي تمتاز بها هذه المحميات، كذلك فإنها تشكل وسيلة وقائية من التغيرات الحضارية التي يدخلها الإنسان على البيئة التي يعيش فيها، لذلك فهي تمثل شواهد حية من التراث الطبيعي والثقافي الذي يتوجب علينا حمايته والحفاظ عليه من التدهور وتوريثه للأجيال القادمة بصورة سليمة
{ مختصة في فلسفة الدراسات
البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك