في يناير2021، حددت «قمة العلا»، لقادة دول مجلس التعاون الخليجي التي احتضنتها السعودية عام 2025، موعدًا لتحقيق الوحدة الاقتصادية الخليجية. ذلك الهدف الذي طالما انتظرت تحقيقه شعوب هذه الدول، وخاصة أنها تدرك امتلاكها مقوماته، وخاصة أيضًا أن المدى الزمني لإنجازه، الذي كان مقدرًا له 2010، قد طال ليبلغ عقدا ونصف من الزمان. وبمعنى آخر، فإن تحديد هذا التوقيت، يعني أن هناك جهودًا تُبذل على جميع المستويات الفنية والوزارية لتحقيق المراحل التي تسبق الوحدة الاقتصادية، والتي مازالت لها متعلقاتها، لكن مع توافر الإرادة السياسية الجمعية عند أعلى مستويات صناعة القرار، فإن الموعد المحدد لن يشهد إرجاء آخر.
ومن المعلوم، أن قمة الرياض، لقادة مجلس التعاون في ديسمبر 2015، كانت قد أقرت رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، التي تضمنت الأسس اللازمة لتحقيق أهداف المجلس، وصولاً إلى الوحدة الخليجية، من خلال تعزيز العمل المشترك، والارتقاء بآلياته، بما يتوافق مع المتغيرات الإقليمية والدولية. ويأتي تحقيق الوحدة الاقتصادية فيما تضمنته هذه الرؤية بشأن استكمال منظومة التشريعات والقرارات اللازمة لتنفيذ ما تبقى من خطوات التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، بما في ذلك الاتحاد الجمركي، والسوق الخليجية المشتركة، والتكامل المالي والنقدي، وصولاً إلى تحقيق المواطنة الخليجية الكاملة، والوحدة الاقتصادية بحلول 2025.
وتخلق الوحدة الاقتصادية الخليجية، كيانًا بالغ التأثير عالميًا، بكتلة هي الأكبر في احتياطي النفط، والأكثر تصديرًا لهذه السلعة، التي تعد الأهم بين السلع الاستراتيجية في عالمنا اليوم، وتشكل عائدات هذه الكتلة منه أيضًا دورًا كبيرًا، في حركة السيولة الدولية. ومنذ إعلان هذا الهدف، وصولاً إلى عام 2025، نشهد تسابق دول وتجمعات العالم الاقتصادية على تعزيز علاقاتها مع هذه الكتلة، وبناء جسور تفاهم معها، بما تشمله من اتفاقات للتجارة الحرة، أو التعاون الاقتصادي، في توقع أن تصبح عملتها -العملة الخليجية الموحدة- إحدى أقوى العملات الدولية، لامتلاكها أساسا قويا، تستند إليه هو احتياطي النفط والغاز، في ظل أنه من غير المتوقع أن يشهد العالم بديلاً منافسًا لهما في المدى القريب في العديد من الاستخدامات، وخاصة في قطاعي النقل والطيران.
وفي دورة المجلس الأعلى، الـ 23، بقطر في ديسمبر 2002، أقر قادة دول مجلس التعاون الخليجي، تصعيد مستوى التعاون الاقتصادي بينهم من مستوى التجارة الحرة القائم من 1983، إلى الاتحاد الجمركي بدءًا من يناير2003، وأقروا الخطوات والإجراءات التي عينتها لجنة التعاون المالي والاقتصادي، وشملت: موعد إقامة الاتحاد وهو يناير 2003، وأسس ومفهوم الاتحاد الجمركي لدول المجلس، ونقطة الدخول الواحدة إلى هذه الدول، وتوحيد التعريفة الجمركية لدول المجلس اتجاه العالم الخارجي، والنظام القانوني الموحد للجمارك لدول مجلس التعاون، واستيفاء الإيرادات الجمركية في الاتحاد الجمركي، والمهام الجمركية للمراكز البينية بين الدول الأعضاء بعد قيام الاتحاد، والسماح للمخلّصين الجمركيين بممارسة مهنة التخليص في الدول الأعضاء، ووضعية المواصفات والمقاييس في ظل قيام الاتحاد والعمل بنقطة الدخول الواحدة، وحماية الصناعات الوطنية بعد قيام الاتحاد الجمركي لدول المجلس، بما في ذلك مكافحة الإغراق والإجراءات الاحترازية والتعويضية.
وفي إدراك لأهمية هذه القضية، بينت دراسة الأمانة العامة للمجلس، أن قيام الاتحاد الجمركي، يحقق نموا، في التجارة البينية في حدود 30.50%، خلال السنوات الأربع الأولى من قيامه. ويُذكر أنه في الفترة من عام 2003 إلى عام 2013، ارتفع حجم التجارة البينية الخليجية بنسبة 24%.
ومن الجدير بالذكر، أن هذه الإجراءات والخطوات كان لتنفيذها مرحلة انتقالية، امتدت من 2003 حتى 2015؛ لإعطاء الدول الأعضاء فرصة للتأقلم مع بعض جوانب الاتحاد الجمركي في استيراد الأدوية والمستحضرات الطبية، واستيراد المواد الغذائية، وتحقيق الحماية الجمركية لبعض السلع في الدول الأعضاء، واستمرار بعض المهام الجمركية للمراكز البينية في دول المجلس، والتحصيل المشترك للإيرادات الجمركية.
وبنهاية الفترة الانتقالية، من المقرر أن يتم العمل بالوضع النهائي للاتحاد الجمركي، وإنهاء الدور الجمركي للمراكز البينية، ويصبح مجلس التعاون الخليجي، منطقة جمركية واحدة، تنفيذًا لقرار المجلس الأعلى في دورته الـ 31 بأبوظبي في ديسمبر 2010. وتعزيزا لذلك، تم في الأول من يونيو2012، إنشاء هيئة الاتحاد الجمركي، التي أنيط بها استكمال خطوات وإجراءات قيام هذا الاتحاد.
وتنفيذًا لقرار المجلس الأعلى، في دورته الـ43 في ديسمبر 2022 بالرياض، أخذت اللجان الفنية والوزارية -وكان آخرها الاجتماع 119 للجنة التعاون المالي والاقتصادي بمسقط في 18 مايو الماضي- تعمل على تنفيذ ما تبقى من متطلبات الاتحاد الجمركي، وفق البرنامج الزمني المعتمد منها، والذي حدد عام 2024 موعدًا نهائيًا لاستكمال خطوات قيام الاتحاد، وكذا مسارات السوق الخليجية المشتركة، وفق خطة عملها (2022– 2024).
علاوة على ذلك، أعلن اتحاد غرف دول المجلس، دعمه الكامل لتنفيذ مخرجات اللقاء التشاوري، بين وزراء التجارة والصناعة، وممثلي القطاع الخاص الخليجي، الذي عُقد بسلطنة عُمان في مايو الماضي، والداعية إلى استكمال تنفيذ مسارات السوق الخليجية المشتركة، ومعالجة عقبات التجارة البينية بين دول المجلس، ومن المعلوم أن السوق الخليجية المشتركة كان قد تم إطلاقها عام 2008.
وفي 12 يونيو2023، عقد أعضاء مجلس إدارة هيئة الاتحاد الجمركي لدول المجلس، اجتماعًا عبر الاتصال المرئي، لمتابعة استكمال متطلبات الاتحاد الجمركي، وناقشوا تقارير فرق العمل واللجان الفنية المعنية بدراسة الموضوعات ذات الصلة، ومتابعة تحقيق متطلبات المرحلة التأسيسية لهيئة الاتحاد والخطوات المتخذة في هذا الشأن، وفي مقدمتها تفعيل منافذ الدخول الأولى، وإنهاء الدور الجمركي للمنافذ البينية، والقيود غير الجمركية التي تفرضها دول المجلس.
وبشكل عام، فإنه بعد قرار قمة العلا عام 2021، ارتفعت وتيرة التنسيق بين دول المجلس لبلوغ هدف الوحدة الاقتصادية في 2025، لما تحققه من نقلة نوعية في التعاون والتوافق بين دول المجلس على جميع الأصعدة. ومنذ 2021 وحتى الوقت الحالي، كانت هناك اجتماعات مستمرة لوكلاء وزارات المالية والاقتصاد، ولجنة التعاون المالي والاقتصادي، ولجنة محافظي البنوك المركزية، وهيئة الاتحاد الجمركي، ولجنة رؤساء ومديري الإدارات الضريبية، ولجنة السوق الخليجية المشتركة، وعديد من فرق العمل، واللجان الفنية للموضوعات المتصلة بهدف الوحدة الاقتصادية، وخاصة أن هذه الوحدة ستحقق حرية انسياب عوامل الإنتاج، والمواطنة الاقتصادية الكاملة، وتصبح الأسواق الخليجية كلها سوقا واحدة، تعمل بعملة خليجية موحدة، يديرها مصرف خليجي مركزي.
وبتفصيل أكثر، ففي مسار إزالة عقبات تحقيق الاتحاد الجمركي، والسوق المشتركة، كان المجلس الفني لهيئة التقييس الخليجية، قد أعلن في مارس 2023، اعتماد 107 مواصفات قياسية خليجية تغطي قطاعات مختلفة، فيما كان اجتماع لجنة وكلاء وزارات المالية في دول المجلس في 9 مايو 2023 بمسقط (الاجتماع 68) -وهو التحضيري لاجتماع لجنة التعاون المالي والاقتصادي 119- قد ناقش اتفاقية نظام ربط المدفوعات بدول المجلس.
واستكمالا، استضافت وزارة الاقتصاد العمانية في 7 يونيو الماضي، اجتماعًا ضم كبار المسؤولين في هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية بدول المجلس، بمشاركة وكلاء وزارات المالية والاقتصاد والتخطيط، للوقوف على أخر تطورات خطة عمل المجلس الطامحة لبناء النموذج الاقتصادي الخليجي وآلياته، والبرنامج الزمني المقترح له، فيما تم التوافق على أهمية سرعة التغلب على جميع المعوقات التي تعيق الوصول إلى الوحدة الاقتصادية بحلول 2025.
ومع تسريع خطوات استكمال متطلبات الاتحاد الجمركي، والسوق الخليجية المشتركة؛ أخذت دول الخليج، تتحرك نحو إحياء مشروع السكك الحديدية الخليجية، الذي من شأنه تحسين الانتقال والتجارة داخل المنطقة بشكل كبير. ويخدم هذا المشروع ما تم في السعودية والإمارات وقطر من تحسين لجميع متطلبات النقل في السنوات الأخيرة.
وتحقيقا لهذه الغاية، وافق قادة دول المجلس في ديسمبر 2021، على إنشاء هيئة السكك الحديدية الخليجية، التي ستتولى الإشراف على المشروع، الذي يربط بين دول المجلس بخطوط يبلغ طولها 2177كم تمتد من الكويت شمالاً، مرورا بالجبيل والدمام في السعودية، ثم البحرين والدوحة، ثم إلى السعودية ثانية، ثم الإمارات، ويصل إلى محطته النهائية في مسقط. وفي فبراير 2022 أعلنت قطر البدء في بناء القسم الذي يربط قطر بالسعودية.
ومع توافر الإرادة السياسية لبلوغ هدف الوحدة الاقتصادية في 2025، وتوالي الإجراءات التنفيذية على مستوى خليجي منسق، لحل المسائل العالقة، أمام الاتحاد الجمركي، والسوق المشتركة؛ فإنه من المرجح ألا يشهد هذا الموعد تأجيلا آخر؛ ليكون مجلس التعاون، بذلك قد حقق واحدة من أهم مراحل وصوله إلى هدفه الأسمى في تحقيق الوحدة الخليجية، إذ سيتعاظم تداخل شبكات المصالح، والتي ستنحي وراءها أي خلافات في أي مجال، والمثال الواضح لذلك، هو الاتحاد الأوروبي، الذي كان بين دوله خصومات، ونزاعات وصلت إلى درجة الحروب. ومع هذا، فإن المصالح الاقتصادية قد وحدت بينها.
وفي حين تجمع شعوب دول الخليج الأواصر العائلية، والروابط الثقافية، ووحدة اللغة والتاريخ والدين، والمصالح المشتركة، والمصير الواحد، يبرز تساؤل هنا.. لماذا تأخرت وحدتها إلى الآن؟ ويفتح إنجاز السوق الخليجية المشتركة، والمواطنة الاقتصادية الكاملة، لأبناء دول المجلس، الطريق أمام التكامل النقدي، والعملة الخليجية الموحدة، وإن كانت المسائل الفنية المرتبطة بها قد يستغرق علاجها وقتًا، إلا أن جدواها مع توافر الإرادة السياسية كفيل بالتغلب على هذه العقبات، وما يسهل الأمور أن عملات دول الخليج كلها ما عدا الكويت مرتبطة مع الدولار الأمريكي بسعر ثابت.
وما يمهد لذلك أيضا، هو اعتماد الاتفاقية الخاصة بربط أنظمة المدفوعات بدول مجلس التعاون في قمة العلا نفسها، التي أطلقت الوحدة الاقتصادية الخليجية في 2025. وتضم الاتفاقية الدول الست الأعضاء في المجلس، وتتضمن إنشاء نظام موحد يربط أنظمة المدفوعات في هذه الدول، بما يسمح بإجراء التعاملات المالية البينية بالكفاءة والسرعة اللازمة لتحقيق الاستقرار المالي. وقد استهدفت الاتفاقية؛ تنفيذ التحويلات، وتسوية المدفوعات، وأوامر الدفع بين الدول الأعضاء، وتعزيز سلامة وكفاءة وسرعة نظم المدفوعات الخليجية المشتركة، والمحافظة على الاستقرار المالي، ومواجهة أي مخاطر محتملة، وتعزيز صلاحيات البنوك المركزية للدول الأعضاء في مراقبة نظام المدفوعات، وتأسيس بنية تحتية لنظام مالي إقليمي يعزز الاندماج بين الأسواق المالية، وتتم التعاملات المالية بالعملات المحلية في التسويات بين البنوك المركزية للدول الأعضاء.
على العموم، إننا إذن أمام اقتراب ميلاد كتلة اقتصادية جديدة في الاقتصاد العالمي، يبلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي قرابة تريليوني دولار، وسوق واحدة ذات قوة شرائية عالية، وجاذبية شديدة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في كافة المجالات، ما يعود بالنفع على كل الدول الأعضاء، بل ودول المنطقة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك