الحوار أنواع، فهناك الحوار العالمي الذي يدور بين مختلف التجمعات الدولية مثل المنظمات الدولية والتكتلات الإقليمية التي تحاول أن تصل إلى أرضية مشتركة وتعبر عن مصالح أعضائها. وبطبيعة الحال يقتضي هذا الحوار تقديم عدة مقترحات والوصول إلى تنازلات يصل المجتمعون فيه إلى صيغة مقبولة يقرونها ويحترمون تطبيقها، لكن هذا ليس الحوار المقصود، بل هو الحوار ضمن المجتمع العربي الواحد الذي هو جزء من المجتمعات العربية. ونتساءل إلى أي حد تختلف المجتمعات العربية في تقبل ثقافة الحوار وممارسته لاتخاذ القرارات ووضع آليات لحسم الاختلافات في المصالح والرؤى والقناعات الدينية والسياسية والاقتصادية والفكرية والإيديولوجية وتقبل نتائجها؟
انتهينا في المقال السابق بطرح سؤال مفاده: هل غياب الحوار خاص بالمجتمعات العربية، ولماذا إن كان كذلك؟ لمناقشة ذلك قد يكون من المفيد النظر إلى مجتمعات أخرى يبدو أنها حققت قدرا من ثقافة الحوار لديها، وقبلته كآلية لمعالجة النزاعات والاختلافات فيما بين مكوناتها ومناطقها وعقائدها وقناعاتها. فمثلا لدينا المجتمع الهندي مقارنة بالمجتمع الباكستاني. الأول استقر نسبيا وأصبح أكبر ديمقراطية، بينما تشهد الباكستان انقلابات وصراعات على السلطة بالرغم من الوحدة الدينية.
الفارق في هذه الحالة النظام السياسي وعدم حسم قضية انتقال السلطة سلميا. فهل الديمقراطية وصفة ناجحة لتكريس ثقافة الحوار؟ مع العلم أن آلية الحوار في الهند لم تنجح في حماية المسلمين في بعض المناطق، فهل هذه حالة خاصة تثبت القاعدة؟
الحالة الأخرى التي يمكن أن يستفاد منها في تحليل الأسباب هي الحالة الأوروبية. ضمن المجتمعات الأوروبية حدثت صراعات دموية عدة بين فرق مختلفة دينيا أو طبقيا، انتهت هذه الصراعات بعد قرون من الحروب الأهلية وجرائم القتل ومحاكمة النوايا والمعتقدات، والتي استخدمت لقمع فرقة من قبل السلطة أو فرقة أخرى. بعد جولات من الصراع استقرت المجتمعات في حالة من التوازن في المصالح وقبلت الديمقراطية وقيمها كآليات لحسم الخلافات في المصالح السياسية والمعتقدات الدينية والأيديولوجيات الفكرية. يتضح ذلك في توجه اسكتلندا للانفصال عن بريطانيا، وقبول قادة الانفصال بآليات الاستفتاء كما قبلت بها بريطانيا وقرر المجتمع البقاء، هذا لم يمنع القيادات في استمرار المطالبة بالانفصال والعمل على عقد استفتاء آخر في وقت مناسب لعرض قرار الانفصال. والأهم أن الأطراف مستبعدون تماما خيار العنف وأصبح من غير المفكر فيه.
مثال ثالث هو جدوى حوار التعايش بين الأديان في المجتمعات العربية الإسلامية، إذ تأسست مؤسسة «حوار الأديان» واستمرت في عقد اجتماعاتها واتفاقاتها، لكن إلى الآن لم تضع آليات مقبولة من الجميع لعرض الاختلافات والوصول إلى توافقات حولها، ومازالت الاختلافات تثير التعصب والتنافر والاقتتال في بعض الحالات. فلماذا لم تتمكن هذه المؤسسات من وضع آلية تناقش الاختلافات وتصل إلى صيغ تنهي الصراع حول الخلافات العقائدية بقبول وجود الاختلاف وتعدد الأفهام وتنوع العقول وتضارب المصالح.
مثال رابع يقول إن الثقافة المجتمعية تتشكل من التربية في البيت والمدرسة في السنوات الأولى، وإن ثقافة الحوار ينبغي أن تغرس في هذا السن المبكر، لكن يبقى السؤال لماذا لم يحدث ذلك في العائلة وفي المدرسة؟ وفي الدولة والمجتمع إلى الآن؟ لماذا يستمر غياب ثقافة الحوار؟
هل ما نشهده من خلافات عربية سياسية ودينية هو نتيجة غياب ثقافة الحوار أم أنه أعمق من ذلك؟ أو أكثر بساطة؟ هل هذه الصراعات الدائرة في معظم دولنا العربية صراعات مصالح أم أنها صراعات طبيعية بين قوميات وثقافات ومعتقدات وطبقات اجتماعية لم تصل إلى صيغة تنظم التعامل فيما بينها، أم أنها ببساطة مطالبات بحقوق إنسانية واقتصادية وسياسية واجتماعية مازالت بعض الأوضاع السياسية والقيادات الدينية والاجتماعية والاقتصادية ترفض الإقرار بها؟
من المشروع أن نتساءل هل تنفرد المجتمعات العربية في غياب ثقافة الحوار؟ أم أنها سمة نالت نصيبها في جميع المجتمعات في فترات مختلفة وما زالت بعضها تقتتل في مناطق مثل إفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية؟ وإذا اقتنعنا بأن مهمة مثقفينا ومفكرينا البحث في وضعنا العربي الإسلامي، فما الذي يميز المجتمعات العربية ويجعلها ترفض الحوار؟ هل هي الأديان؟ أم الأوضاع السياسية؟ أم أنه التعليم وعجزه في تكريس ثقافة الحوار. وهل أسهمت الحضارة العربية الإسلامية في هذا الغياب؟
طرح المتحاورون في الندوة عدة أسباب تتلخص في أولا أسباب سياسية- غياب الديمقراطية وضعف المجتمع المدني. ثانيا أسباب ثقافية تتعلق بالتربية في البيت والعلاقة بين الرجل والمرأة والأولاد ومفاهيم التربية التي تعظم الطاعة على حرية الرأي. ثالثا أسباب دينية تتلخص في اعتقاد بامتلاك الحقيقة الوحيدة وبالتالي من الضروري أن يكون الآخر على باطل. رابعا أسباب تربوية تعليمية نابعة من فلسفة التعليم وأهدافه، وكيفية عرض الفرضيات واختبارها للوصول إلى نتائج وحلول تبدأ بتعريف من هو المتعلم، وصولا إلى النتائج من البحث العلمي الرصين ورفض التناقضات التي تقدمها القيادات الدينية والمجتمعية والاقتصادية وغيرها كتفسير لقراراتهم وآرائهم في دعم مصالحهم، وعدم اعتبار النتائج أنها دعوة لاستخدام العقل والمنطق والاعتماد على الأدلة والإحصاءات لوضع السياسات ولحسم الخلافات من جهة، ومن جهة أخرى قبول اختلاف الرأي والفهم والتفسير والتأويل ومختلف الحلول وإخضاعها للأدلة العقلية مع قناعة بحق الآخر في رفض هذه الآراء والأفهام والخلاصات والسياسات وحقه في التمسك بما يرى ويقتنع به، بشرط ألا يفرضه على الآخرين بسلطة سياسية أو سلطة دينية أو سلطة أبوية؟ ما مصدر هذه الاعتقادات والتناقضات في المواقف والقناعات؟ يبقى السؤال أي من تلك الاحتمالات هو الأكثر تأثيرا؟ سؤال لمناسبة أخرى.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك