لم يعد غريبا أن نقول إن البشرية تمر الآن بواحدة من أكبر، أو ربما أكبر نقطة تحول في تاريخها.
وإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الدورية العالمية، لدينا أزمة موارد متنامية، وأزمة تغيير الدولة المهيمنة، وأزمة تغيير الحضارة المهيمنة، وربما الأهم من ذلك، ولأول مرة في التاريخ، انتقال البشرية جمعاء من النمو الديموغرافي إلى الانخفاض الديموغرافي.
تمر الولايات المتحدة الأمريكية بعدد من الأزمات في وقت واحد، إلا أن الأزمة الديموغرافية هي التي ستقضي عليها. حيث يؤدي فقدان الأغلبية البيضاء في الولايات المتحدة لهيمنتها إلى خلق صراع سياسي أنا على يقين من أنه سيؤدي إلى تفكك البلد في حياة جيلنا. وباستمرار التوجهات الحالية، فإن مثل هذا التحول يبدو حاليا، بينما معدل المواليد بين السكان البيض في الولايات المتحدة منخفض، وتضاءلت الهجرة من أوروبا إلى الولايات المتحدة حتى أصبحت تيارا ضعيفا على خلفية التدفق القوي من أمريكا اللاتينية.
ومع ذلك، فالعبارة الرئيسية هنا هي: باستمرار التوجهات الحالية.
إلا أن هناك طريقة ليس فقط لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية الآن، ولكن أيضا للقضاء على المشكلة الديموغرافية لمدة 100 عام أو أكثر. وللقيام بذلك، من الضروري خلق مثل هذه الظروف في أوروبا التي يهرع فيها عشرات أو حتى مئات الملايين من الشباب الأوروبي عبر المحيط. أي إن على أوروبا أن تمر بانهيار لحضارتها.
تلك مهمة جيوسياسية، تاريخية، ولا تقل كونية عن بداية انهيار الولايات المتحدة الأمريكية، وتتطلب درجة من الصرامة والاستهتار واللامبالاة تجاه المعاناة الإنسانية، والتي تمكن العالم من نسيانها. فقد تعوَّد العالم، خلال العقود الأخيرة، على التعامل مع القدرة أو إدراك الأنشطة التي تنتمي إلى هذا الحجم من تغيير مصير قارات بأكملها، بوصفها نظريات مؤامرة غير واقعية. ومع ذلك، ففي الأزمنة الأقل رفاهة، كان من الصعب رسم علامات الدهشة على وجه أي شخص بتدمير الحضارات.
لقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل في التحرك على هذا الطريق. فحرمان أوروبا من الطاقة الروسية الرخيصة، وإقرار «قانون مكافحة التضخم» الذي يشجع على نقل الصناعة الأوروبية إلى الولايات المتحدة، وإثارة الحرب في أوروبا، بل وإثارة حرب نووية محددة مع روسيا، والتي من الممكن أن تنشب على وجه التحديد في أوروبا، كلها دليل على التحرك في هذا الاتجاه.
لكن دعونا نتناول النقطة الأخيرة: حرب نووية في أوروبا.
نشرت مجلة «روسيا في السياسة الدولية» مقالا بقلم السياسي والخبير الروسي المرموق سيرغي كاراغانوف، كتب فيه: «إن انتصار روسيا على أوكرانيا لن يوقف حرب الغرب ضد روسيا. بل إن عدوان الغرب ضد روسيا، في رأيه، وبسبب أزمته الداخلية، سيزداد، وسينتهي الأمر بالإبادة النووية للبشرية، إذا لم نتمكن من إيقاظ الشعور بالخوف الكامن في الغرب. ولا يمكن القيام بذلك، في رأيه، إلا من خلال خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية، بما في ذلك وقائيا. وفي حال فشل الغرب في استعادة غريزة البقاء، فمن الضروري «ضرب مجموعة من الأهداف في عدد من البلدان».
إن ما يهيمن على روسيا، في رأيي المتواضع، هو هاجس جيوسياسي بأن بقاءها على المدى الطويل وتطورها الناجح في ظل الظروف الراهنة لن يكون مضمونا طالما كان مستوى المعيشة في أوروبا أعلى منه في روسيا.
لن أحلل بالتفصيل أسباب الازدهار الأوروبي (سرقة المستعمرات)، لكنني سأشير فقط إلى أنه ينتهي، لكن مستوى المعيشة سيظل أعلى من نظيره الروسي فترة طويلة نسبيا، فترة طويلة كافية لإثارة أزمة في روسيا.
ففكرة الشعوب الأخرى عن الحياة في أوروبا تعد مثالية للغاية، ولا تتوافق مع الواقع، إلا أن هذه الفكرة في حد ذاتها هي عامل قوي يؤثر، من بين أمور أخرى، في الوضع الداخلي في البلدان المجاورة، بما في ذلك أوكرانيا وروسيا.
في أي مجتمع، هناك سذج يريدون ويؤمنون بإمكانية الثراء من دون عمل شاق، وأن الحلول البسيطة يمكن أن تحل المشكلات المعقدة. لقد مرت روسيا نفسها بمثل هذه السذاجة في نهاية الحقبة السوفيتية، ولكن بعد أن مرت بفترة التسعينيات الرهيبة، نضج المجتمع الروسي، لكن المجتمع الأوكراني لم ينضج بعد. علينا فقط أن نتذكر أن الأوكرانيين انتخبوا مهرجا رئيسا لهم. هو مهرج قام ببساطة بدور رئيس البلاد في مسلسل كوميدي، يحل المشكلات المعقدة بحلول بسيطة.
في الواقع، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا هي جزئيا حرب أهلية روسية داخلية، تم فيها إغراء جزء من سكان الاتحاد السوفيتي بصورة زائفة لحياة جميلة في أوروبا. ونصف الجنود الأوكرانيين هم مواطنون أوكرانيون من أصول روسية، نشأوا على فكرة أن متحرش الأطفال الأوروبي الذي يغريهم بالحلوى سيمنحهم السعادة، عكس الأب الروسي الصارم، الذي يحاول منع دخول الأوكرانيين إلى سيارة متحرش الأطفال الأوروبي ويجبرهم على الدراسة والعمل، بدلا من الاحتفال والسهرات، والذي يعتبرونه لذلك عدوا وطاغية. الأوكرانيون ليسوا مجموعة عرقية، إنما خيار سياسي، هم مجموعة من البشر من أصول مختلفة اختاروا الإيمان بالمعجزة والثروة التي ستحدث بعد انفصال أوكرانيا عن روسيا، وتسليم نفسها لأيدي الغرب. بالطبع، فإن ذلك هو الوهم بعينه، لأن التنازل عن السيادة يجعل الشعوب تعيش أسوأ لا أفضل.
بالنسبة إلى روسيا، تكمن المشكلة في أن هذا الخيار مناسب أيضا للشباب الروسي، ممن نشأوا في سنوات بوتين المرفهة، والذين لم يتم تطعيمهم بفترة التسعينيات القاسية. وكلما زادت الثروة، زادت المطالب، وانخفضت الرغبة في العمل الجاد.
في غضون 5 أو 10 أو 20 عاما، ومع هيمنة وسائل الإعلام الغربية والصورة الجميلة للحياة في أوروبا، قد يكرر الوضع نفسه في روسيا. وسوف يتكرر ما حدث بالفعل قبل ذلك، حينما دمرنا الاتحاد السوفيتي، ثم ندمنا عليه في وقت لم يعد يجدي فيه الندم.
يزداد الوضع صعوبة لأنه بعد الانتصار في أوكرانيا، سنحصل على دولة استهلكها الغرب ودمرها في حربه بالوكالة مع روسيا. وستكون مستويات المعيشة في الأراضي الروسية الجديدة، أو الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا، إذا بقي أي شيء من أوكرانيا، أقل من مستوى المعيشة في الأراضي الروسية القديمة لعقود. سيتعين على الأراضي الروسية القديمة أيضا أن تنفق لعقود من دخلها لإعادة إعمار أوكرانيا. علاوة على ذلك، يجب القيام بكل هذا في ظل ظروف المواجهة الجيوسياسية مع الغرب الجماعي، والذي سيستمر في زعزعة استقرار روسيا من الداخل، وإثارة عدوان تابعيه من الخارج.
في ظل هذه الظروف، أظن أنه من غير الواقعي توقع أي نتيجة أخرى غير تلك التي تم تحقيقها في الفترة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفيتي وفي أوكرانيا اليوم. مرة أخرى، سينبري الجزء الساذج من المجتمع بالقول: «لا أمانع في العيش كما في بولندا، حتى لو اضطررت إلى التخلي عن السيادة...» مرة أخرى، ستواجه قيادة البلاد معضلة المجتمع المفتوح والمتطور مع مخاطر الثورة الملونة والتدمير اللاحق للبلاد أو الانغلاق على النفس مع مزيد من التدهور والخسارة الجيوسياسية، وهذه المرة هي الضربة القاضية بالفعل.
فالعالم الذي يتبع فيه السياسيون بصرامة المصالح الجيوسياسية لبلدانهم هو عالم مثالي. الواقع هو أن السياسيين هم أيضا بشر، فهم يرتكبون الأخطاء، وإرادة التاريخ ليست واضحة تماما حتى بالنسبة إليهم. لقد بدأ بوتين نفسه، بعد إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا، في إعطاء أوكرانيا الدبابات والسفن وغيرها من الأسلحة الأوكرانية السابقة.
ومع ذلك، فقد بدأ بوتين العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا عندما أدرك أن الصدام العسكري مع الغرب هو أمر لا مفر منه، ما يعني أنه كان عليه أن يضرب أولا، على حد تعبيره.
قد يكون لدى السياسيين خطط أو أوهام، لكننا نرى أن الجغرافيا السياسية قادرة على إخضاع تصرفات السياسيين لإرادتها ومنطقها.
أتفق تماما مع كاراغانوف في أنه من دون تخفيض سريع وحاسم وعملي لعتبة استخدام الأسلحة النووية، لن نحقق تحييد الغرب.
ومع ذلك، سأذهب أبعد من ذلك. فالحفاظ على بقايا الرفاهية والازدهار السابق في أوروبا في الظروف التي يقع فيها عبء استعادة أوكرانيا على عاتق روسيا هو أمر غير مقبول. وهذا لا يقل تهديدا لتطور روسيا وازدهارها عن تهديد الصواريخ الأمريكية في منطقة خاركوف. ويجب ألا تخرج أوروبا من المواجهة الحالية أكثر ثراء وازدهارا من روسيا. في تقديري يجب أن يصبح هذا أحد الأهداف الرئيسية لروسيا.
وأعتقد أن الطريقة التي اقترحها كاراغانوف لاستعادة الشعور بالخوف في الغرب من خلال الضربات على مجموعات من الأهداف في عدد من البلدان تتماشى تماما مع الأهداف الموضحة أعلاه.
إضافة إلى ذلك، يجب على أوروبا أن تدفع لنا تعويضات عن عدوانها بمقدار عشرات الأضعاف مما أنفقته وما يمكن أن تنفقه في العقود القادمة من خلال المواجهة مع روسيا، حيث يعد الانخفاض في مستوى المعيشة بأوروبا إلى مستوى أقل مما هو عليه في منطقة توفا بسيبيريا الفقيرة شرطا مسبقا جيدا للتنمية وزيادة عدد السكان في سيبيريا.
ومن سخرية الأمور أنه في هذه المرحلة التاريخية، يبدو لي أن المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا فيما يتعلق بأوروبا تتطابق. وهو ما يعني أن فرص تنفيذ ما أضعه في العنوان مرتفعة للغاية، على الرغم من حقيقة أن السياسيين قد يكون لديهم خطط أخرى.
*محلل سياسي روسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك