خلال نهائيات كأس العالم لكرة القدم بقطر أواخر نوفمبر 2022، فاجأت «السعودية»، الجميع، بفوزها على «الأرجنتين»، في دور المجموعات من البطولة بنتيجة «2-1»، وهو ما اعتبرته شركة «جريس نوت»، «أكبر نتيجة مفاجئة في تاريخ كأس العالم»، حيث لم ينل المنتخب السعودي، سوى 8.7% فقط من الترشيحات للفوز قبل المباراة. وفي حين أن منتخبها لكرة القدم يُصنف على أنه فريق غير مخضرم، مقارنة بنظرائه من منتخبات أوروبا وأمريكا الجنوبية؛ فقد أثبتت «المملكة»، نفسها الآن كقوة رئيسية في هذه الرياضة. وكتب «شون إنجل»، في صحيفة «الجارديان»، إن «مشروعها للقوة الناعمة يقوض المشهد الرياضي العالمي».
ومع سلسلة الاستثمارات المتعددة في مجال الرياضة، بدءًا بشراء «حصة أغلبية»، في نادي كرة القدم الإنجليزي «نيوكاسل يونايتد»، من قبل «صندوق الاستثمارات العامة السعودي»، في أكتوبر2021؛ فقد عززت «الرياض»، وجودها في كرة القدم العالمية، مع توقيع النجم الرياضي «كريستيانو رونالدو» -الحائز على خمسة ألقاب للكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم– لصالح نادي «النصر» في ديسمبر 2022، فيما شهد صيف 2023 مجموعة من الصفقات البارزة؛ التي جذبت أنظار محللي الرياضة، خاصة أنها عززت حضور دول الشرق الأوسط في أكثر الرياضات شعبية في العالم.
وفي حين تؤكد الإشارات التقليدية للقوة الناعمة في تحليل الشؤون الخارجية على أهمية «التاريخ، والقيم المشتركة، والتأثير الدبلوماسي، والنفوذ الاقتصادي، وتأثير العلاقات الدولية للأمة على بقية العالم»، في تكوين روابط أقوى، والسماح للدول بتحقيق أهدافها، دون الاعتماد على القوة العسكرية، فإنه لا ينبغي الاستهانة بالدور الذي يمكن أن تلعبه «الرياضات»، مثل كرة القدم في تعزيز ديناميكيات القوة الناعمة بين الأفراد من مختلف القارات والثقافات.
وباعتبارها الرياضة الأكثر شعبية في العالم -حيث يشير «الاتحاد الدولي لكرة القدم»، (الفيفا)، إلى أن هناك ما يصل إلى خمسة مليارات من المشجعين للعبة في جميع أنحاء العالم، وما يقدر بنحو 1.5 مليار شخص شاهدوا نهائي كأس العالم 2022 بين «فرنسا»، و«الأرجنتين»- فإنه يبرز دور «كرة القدم»، كقوة ناعمة؛ لتعزيز السمعة الدولية لدولة ما، وريادتها في مجال الترفيه. وغالبًا ما يكون أفضل وأشهر الرياضيين في العالم، بمثابة وجه عالمي لأمتهم، مع بروز نماذج مثل المصري «محمد صلاح»، والجزائري «رياض محرز»، والمغربي «أشرف حكيمي»، الذين يعملون كسفراء رئيسيين للشرق الأوسط، وشمال إفريقيا دوليا.
وكجزء من «رؤية السعودية 2030»، لتنويع اقتصادها، بعيدًا عن الاعتماد على عائدات النفط؛ فقد أوضحت شبكة «سي بي اس نيوز»، أنها سعت إلى «دمج الرياضة والترفيه في ثقافة البلاد»، لتعزيز هدفها الأوسع المتمثل في ترسيخ نفسها كـ«مركز عالمي رئيسي للتجارة والاقتصاد والتكنولوجيا والسياحة». وتحقيقا لهذه الغاية، استضافت بالفعل نزال «الملاكمة»، على لقب العالم للوزن الثقيل، ونظمت العديد من سباقات «فورمولا 1» للسيارات، وأطلقت بطولة «ليف جولف»، المنفصلة الخاصة بها، والتي جذبت بعض أشهر الوجوه الرياضية.
ومع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أن مشاركة الشرق الأوسط، والخليج على وجه الخصوص، في «كرة القدم العالمية»، ليس بالأمر الجديد. ومنذ عام 2011، تمتلك شركة «قطر للاستثمارات الرياضية»، أكبر فريق في فرنسا، وهو «باريس سان جيرمان». في حين يتمتع الشيخ «منصور بن زايد آل نهيان»، نائب رئيس مجلس وزراء الإمارات، بملكية فريق «مانشستر سيتي»، في إنجلترا منذ عام 2008.
وبالنسبة إلى السعودية، فإن التعاقد مع لاعبين دوليين معروفين لملايين المشجعين في جميع أنحاء العالم، يأتي في طليعة اهتمامها بكرة القدم المحلية. ويمثل توقيع اللاعب «رونالدو» -صاحب الرقم القياسي في تسجيل الأهداف بتاريخ كرة القدم الاحترافية، والذي يتابعه على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من 500 مليون متابع- حالة بارزة لدور «المملكة»، المزدهر في كرة القدم العالمية، الأمر الذي وصفته صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه كان «إنجازا»، ضمن «اهتمام غير مسبوق»، بدوري الدرجة الأولى لكرة القدم في البلاد. وفي يونيو 2023، انتقل اللاعب الدولي الفرنسي «كريم بنزيما» -الحامل الحالي للكرة الذهبية لأفضل لاعب كرة قدم في العالم– من عملاق كرة القدم الإسباني نادي «ريال مدريد»، إلى نادي «اتحاد جدة»، ما يؤكد زيادة جاذبية لعب كرة القدم في السعودية لأفضل لاعب في العالم.
من ناحية أخرى، تمت الإشارة إلى أن أمثال «رونالدو»، و«بنزيما»، هم في خريف مسيرتهم الاحترافية»، وأن التغطية الغربية قد أثارت مشاعر غير متوقعة بالإشارة إلى الأرقام الهائلة التي يُفترض أنها دُفعت لجذب أفضل المواهب الكروية إلى الشرق الأوسط. وذكرت «ناتاشا توراك»، من شبكة «سي ان بي سي»، أن «رونالدو»، وقع عقدًا، «يفوق الرقم القياسي»، بقيمة حوالي 200 مليون دولار، وهو ما أشار إليه الصحفي الإيطالي «فابريزيو رومانو» -المتخصص في انتقالات لاعبي كرة القدم- بأنه «أكبر راتب على الإطلاق في كرة القدم».
ومع ذلك، فقد أشار «ويل أنوين»، في صحيفة «الجارديان»، إلى أن «المملكة»، تتمتع بقاعدة جماهيرية ضخمة لكرة القدم. وفي حين أن بطولة الدوري المحلي كانت منذ فترة طويلة تشبه المباريات التنافسية، التي تقام في كل من إنجلترا، وإسبانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا؛ فإن توقيع لاعبين بارزين، حتى لو كانوا في نهاية حياتهم المهنية، للفرق السعودية، لا يزال يجذب حشودا قياسية من المتابعين لملاعبها، ويبين في الوقت نفسه حجم الاستثمار في اللعبة لتعزيز سمعتها العالمية، ويعمل على تعزيز جاذبية رعاية فرق كرة القدم العالمية، وزيادة عائدات البث التلفزيوني التي تحصل عليها الأندية».
علاوة على ذلك، يجب الإشارة أيضًا إلى كيفية استفادة دول الخليج في السنوات الأخيرة من ارتفاع أسعار النفط العالمية، التي وصلت إلى إيرادات قياسية، لجعلها تتمتع بمكانة فريدة لجذب أفضل اللاعبين والمديرين، وأطقم التدريب، والجهات الراعية لفرقهم في الخارج، فضلاً عن قدراتها على إنشاء مرافق حديثة لاستكشاف اللاعبين، وتدريبهم وتطوير المواهب الشابة.
ومن الثابت أيضا، أن الاستثمار في الرياضة الخليجية لطالما ارتبطت «ارتباطًا وثيقًا»، بالنجاحات داخل أرضية الملعب نفسها. وعلى سبيل المثال، فاز «باريس سان جيرمان»، بـ9 ألقاب في الدوري الفرنسي منذ الاستحواذ القطري، بينما فاز نادي «مانشستر سيتي»، في الدوري الإنجليزي الممتاز 7 مرات بعد الإدارة الإماراتية له، وفاز بخمسة ألقاب من المواسم الستة الماضية، وتصدر قائمة «ديلويت» المالية للعام الثاني على التوالي، باعتباره صاحب الإيرادات الأعلى في عالم كرة القدم في موسم 2021-2022، حيث جمع أكثر من 790 مليون دولار خلال الموسم ذاته، بما في ذلك إيرادات تجارية قياسية قدرها 373 مليون يورو. في حين قفز «نيوكاسل يونايتد»، من المرتبة الـ 19 عام 2020 في ترتيب جدول أندية الدوري الإنجليزي الممتاز، ليحتل المركز الرابع في موسم 2022-2023، منذ الاستحواذ السعودي عليه.
وعليه، فإن الاستثمارات الخليجية التي يتم ضخها لقوى رياضية تاريخية، مثل «مانشستر يونايتد»، و«ليفربول»، ترتبط «ارتباطا مباشرا»، بالإدارة الذكية لهذه الكيانات الكبيرة، ومجالس إداراتها، ونجاحها منقطع النظير في مبارياتها، الأمر الذي يعزز في نهاية المطاف من سمعة دول الخليج في جلب النجاحات الاقتصادية، والانجذاب للاستثمارات المجدية عالميا.
وعلى نطاق أوسع، فإن علاقة الاستثمارات السعودية في كرة القدم -والرياضة بشكل عام- بمشروع «رؤية 2030»، لها «أهمية كبرى». ومع إطار العمل الاستراتيجي الذي يهدف إلى إطلاق ما وصفه «جوناثان بانيكوف»، من «المجلس الأطلسي»، بأنه «نهضة» من خلال التنويع الاقتصادي، نمت الإيرادات السعودية الحكومية غير النفطية بالفعل بنسبة 6.2% في الربع الأخير من عام 2022، وبنسبة 5.8% أخرى في الربع الأول في عام 2023، جراء جهود صندوق الاستثمارات العامة السعودي. وبشكل ملحوظ، زادت الاستثمارات في الدوري المحلي لكرة القدم، حيث وقع «الصندوق» في يونيو 2023، «اتفاقية تجارية»، مدة 20 عامًا مع أربعة من أشهر الفرق في المملكة. وكتب «أنوين»، أن التعاقد مع أفضل لاعبي كرة القدم في العالم، يمكن أن يكون «الأداة الأكثر فعالية»، لتعزيز سمعة الرياض ومكانتها الدولية.
يضاف إلى هذه الجهود، سعي «السعودية»، لاستضافة كأس العالم لكرة القدم؛ خاصة بعد أن جلبت استضافة أول بطولة كرة قدم عالمية في الشرق الأوسط، بقطر «اهتمامًا عالميًا»، وتمثل خطط استضافة «الرياض»، لتلك البطولة، إلى جانب «مصر»، و«اليونان» عام 2030، وسيلة رفيعة المستوى للاحتفال بمشروع التحول الاقتصادي الرائد لها.
وفي الإطار ذاته، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن «المشروع السعودي لتعزيز الاهتمام باللعبة من خلال التوقيع مع مواهب أجنبية رفيعة المستوى؛ يُذكرنا بخطة «الصين» المماثلة قبل عِقد من الزمن، حين سعت إلى «محاكاة كرة القدم العالمية»، من خلال سلسلة من التعاقدات بأجور لا مثيل لها في أوروبا. ومع ذلك، فإن عدم استدامة وتذبذب النموذج المتقدم لكرة القدم الصينية أدى إلى تعثر الدوري في نهاية المطاف. وأشار «جون دويردين»، في صحيفة «الجارديان»، إلى معوقات، مثل الإفراط في معدلات الإنفاق، والافتقار إلى الاستثمارات الضرورية.
وعليه، فإن تعلم الدروس من مثل هذه الحالات، يوضح كم التطلعات التي كانت في الماضي. وأشار «أنوين»، إلى أن قدوم لاعبين كبار إلى «المملكة»، سيكون مصحوبًا بـ«طموح لإنشاء بنية تحتية متطورة بشكل تام»، ودافعًا في الوقت ذاته إلى تشجيع اللاعبين السعوديين الشباب على تحسين أدائهم.
على العموم، فقد أشار «ميغيل ديلاني»، في صحيفة «الإندبندنت»، إلى أن «السعودية»، تمتلك شبابا محبين للرياضة، لديهم ثقافة قوية، وطويلة الأمد حول كرة القدم بشكل عام»، وبالتالي، فإن احتمالية نجاح استثمارها في الرياضة المحلية والدولية؛ لتعزيز قوتها الناعمة، يعد «احتمالا قويًا» بشكل كبير. واستنادًا لنمو صناعتها الرياضية بمعدل 8% سنويًا، رأى «ديفيد شينكر»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، أن مشاركتها في عالم الرياضة، مثل بطولة «لايف جولف» الممولة منها، «تمثل نجاحا آخر في خططها لتنويع اقتصادها».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك