عنصر كيميائي موجود في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية منذ مئات السنين، ولكن هذا العنصر بالرغم من قِدَمه وتعرُّف العلماء على هويته وخصائصه، إلا أنه بالرغم من ذلك كله ظل مهمشا ولم يلق أحد له بالاً، ولم يجد لنفسه موطأ قدمٍ راسخ وقوي في الأسواق العالمية وفي صناعة المنتجات الاستهلاكية كمنتج استراتيجي واسع الاستخدام يحتاج إليه البشر أجمعين، فهو إذن موجود منذ القِدَم في بعض الدول ولكن لا قيمة له من الناحية التجارية والإنتاجية والاقتصادية.
ولكن كما يُقال الأيام دول، والثروات الطبيعية التي حباها الله لينتفع بها البشر بين مد وجزر، فتلك الأيام والموارد والخيرات الفطرية، سواء أكانت حية كالنباتات والحيوانات أم غير حية، يتم تداولها بين الناس بين الاتساع في الاستخدام وبين الانكماش، ومنها ما يزيد الاعتماد عليها، ومنها ما ينقص استخدامها مع الزمن فيأفل نجمها. فهذا في تقديري ينطبق أيضا على العناصر والمركبات الكيميائية الموجودة طبيعيا في باطن الأرض، ومخزنة كمواد طبيعية بعضها في أعماق الكتلة الأرضية، وبعضها في أعماق البحار والمحيطات السحيقة وهي جاثمة هناك آلاف السنين تنتظر الوقت المناسب، وتنتظر دورها في التنقيب عنها واستخراجها إلى سطح الأرض، كما تنتظر دورها في ظهور حاجة الإنسان إليها، واكتشاف تطبيقات حيوية لا يستغني عنها البشر.
وهذا بالضبط ما حدث لعنصر الليثيوم، وبالتحديد المركبات والأملاح التي تحتوي على هذا العنصر الأبيض الفضي اللون، والذي يتمتع بنشاطٍ قوي جداً يجعله قابلاً للاشتعال في حالته الفردية العنصرية، حتى إن هذا العنصر المجهول اقتصاديا نال الآن وبجدارة لقب «النفط القادم»، أو «الذهب الأبيض»، فهو يدخل كمكون رئيس في كثير من منتجات القرن الحادي والعشرين التي لا يمكن الاستغناء عنها في كل دول العالم، مثل بطاريات مئات الملايين من السيارات الكهربائية، والمليارات من رقائق ومكونات الكمبيوتر والهاتف النقال، ومصادر الطاقة المتجددة النظيفة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية.
ومن أجل السيطرة على هذا الذهب الأبيض والتحكم فيه على المستوى الدولي، بدأ منذ قرابة عقد من الزمان سباق دولي جديد محتدم، ووقع تنافس محموم قوي لإحراز السبق والريادة في استخراجه من مكامنه ومخازنه في البر والبحر، ومن سيفوز بهذا السباق ويحرز مركزا متقدما سيكون عنده زمام الأمور، وستكون بيده دفة سفينة التحكم في أسعار السوق، وسينال مع كل ذلك تطوراً اقتصادياً وتنمويا كبيرين، وهيمنة سياسية على القرار الدولي.
أما نتائج السباق الدولي حتى الآن فالصين هي الأولى، وهي التي تتصدر رأس القائمة في هذا السباق الماراثوني، فهي الرائدة في مجال تكرير وإنتاج الليثيوم وتصنيع هيدروكسيد الليثيوم المستخدم في بطاريات السيارات، وهذه الريادة والتفوق برزا على جبهتين. الجبهة الأولى هي التنقيب عن الليثيوم والعناصر الأخرى التي نحتاج إليها في كل الأجهزة الإلكترونية والبطاريات والرقائق، مثل النيكل، والكوبالت، والنحاس وغيرها داخل الصين وفي حدودها الجغرافية، مثل المنطقة الجبلية الغنية التي يٌطلق عليها «بايان أوبو» (Bayan Obo) المخزن في بطنها كميات ضخمة من العناصر الأرضية النادرة(Rare Earth)، إضافة إلى منطقة البحيرات المالحة في مقاطعة (Chaerhan Salt Lake). وأما الجبهة الثانية فهي تشغيل الشركات الصينية لبعض مواقع التعدين والتنقيب عن الليثيوم وغيره من العناصر النادرة وتكريرها مثل الكونجو، وأستراليا، وفي دول قارة أمريكا الجنوبية، مثل منطقة «مثلث الليثيوم»، وهي بوليفيا، وتشيلي، والأرجنتين. ففي بوليفيا هناك أكبر مخزون لليثيوم في العالم في منطقة (Salar de Uyuni)، حيث البحيرات الملحية ويتم فصل الليثيوم من الملح تحت إشراف وتشغيل شركة صينية.
وأما الولايات المتحدة الأمريكية فهي دخلت السباق منذ زمن طويل، ولكن تقدمها وخطواتها نحو الأمام كانت بطيئة جداً، واعتمدت على الصين ودول أخرى لتزويدها بما تحتاج من الليثيوم وغيره من العناصر لتجنب التداعيات البيئية والصحية المصاحبة لعملية الإنتاج وخفض الكلفة، ولكن ظروفاً دولية وأزمات صحية ألزمت أمريكا بتغيير سياساتها واستراتيجياتها، مثل وباء كورونا الذي ضرب الكرة الأرضية برمتها وأوقف سلاسل توريد وإمداد المواد الخام والمنتجات حول العالم، وشل حركة التجارة بين الدول، إضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية. فكل هذه الوقائع اضطرت أمريكا إلى أن تعود إلى السباق مرة ثانية، وتُسرع من خطواتها حتى تصل إلى النهائية قبل الدول الأخرى، وتقلل من اعتمادها على الدول الأخرى لتزويدها بالمواد الخام. فقد تعهد الرئيس بايدن منذ ولايته بالتصدي لظاهرة التغير المناخي والتحول إلى الاقتصاد الأخضر المعتمد على مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، ولذلك اتخذ عدة خطوات لتحقيق هذه الأهداف، منها التوقيع على قانون «خفض التضخم» (Inflation Reduction Act)، ثم توفير القروض والمساعدات للشركات التي تعمل في مجال إنتاج السيارات الكهربائية وتصنيع البطاريات، حيث أعلن في 18 أكتوبر 2022 عن توفير قروض بمبلغ 2.8 بليون دولار، ودشَّن «المبادرة الأمريكية لمواد البطاريات» (American Battery Materials Initiative)، كذلك شجع شركات التعدين على إنتاج الليثيوم والعناصر الأخرى، منها المنطقة الواقعة على الحدود بين ولاية كاليفورنيا ونيفادا وهو منجم (Mountain Pass)، إضافة إلى منجم (Silver Peak Mine) الذي يعد من أقدم المناجم في نيفادا لإنتاج الليثيوم. وعلاوة على ذلك فإن الشركات تحفزت في الاستثمار في السيارات الكهربائية، ومصانع التكرير، والمناجم المنتجة لليثيوم والعناصر الضرورية الأخرى.
وفي المقابل فإن الدول الأوروبية سارت على النهج الأمريكي أيضاً، وتبنت السياسة الأمريكية في الاعتماد على القدرات والإمكانات الأوروبية الذاتية وتجنب الاعتماد على الصين وغيرها من الدول، حيث قامت بوضع قانون جديد لتأمين احتياجاتها من المواد الخام (Critical Raw Materials Act)، كما قامت بعض الدول، مثل ألمانيا والنمسا بإنشاء أول مصنع لتكرير الليثيوم، إضافة إلى السويد التي تمتلك مخزوناً يعد هو الأكبر على مستوى القارة الأوروبية من الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة.
وطوال العقود الماضية، فقد كانت دول الشرق الأوسط غائبة كليا عن هذا السباق الدولي، فلم تتمكن من التنافس مع الدول المصنعة لليثيوم والمعادن الأخرى لعدم وجود المقومات القوية التي تؤهلها للدخول في السباق، ولكن في 27 فبراير 2023 تغير هذا التوجه الدولي، وأصبحت إيران أول دولة في الشرق الأوسط قادرة على خوض هذا السباق والتنافس على مركز الصدارة، وذلك بعد أن أعلنت إيران ممثلة في وزارة الصناعة والتعدين والتجارة اكتشاف أول مخزون ضخم لليثيوم في سهول قهاوند شرقي مدينة همدان، حيث تُقدر الكمية بنحو 8.5 ملايين طن من صخور الليثيوم، فهي الآن تحتل المركز الرابع في احتياطي الليثيوم على المستوى الدولي الذي يبلغ 89 مليون طن بعد بوليفيا في المركز الأول (21 مليون طن)، ثم الأرجنتين (19 مليون طن)، وتشيلي(9.8)، وأستراليا(7.3) في المركز الخامس، والصين(5.1 ملايين طن) في المركز السادس، حسب إحصاءات هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية(U. S. Geological Survey) المنشورة في يناير 2022.
والعالم الآن في انتظار النتائج النهائية لسباق الليثيوم، ويترقب بلهفة شديدة معرفة من سيصل أولا إلى خط النهاية ويفوز بالجائزة الذهبية الكبرى.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك