منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بات «الدولار الأمريكي»، هو المعيار المهيمن على التجارة العالمية، والعملات الأجنبية، واحتياطيات البنوك المركزية، ما دعا «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى وصفه بأنه «عملة العالم». ومدعومًا بالتأثير المالي لوزارة خزانة الولايات المتحدة، كونه «عملة مرجعية»، ترتبط بها الدول في جميع أنحاء العالم، فقد ساعد الدولار أيضًا في ترسيخ تبوء الاقتصاد الأمريكي مكانة كبيرة، حتى مع قيام العديد من منافسيه -وأبرزهم الصين– بتعزيز دورهم في الاقتصاد الدولي خلال العقدين الماضيين.
غير أنه في ظل تراجع المكانة السياسية والعسكرية الأمريكية على بقية العالم، نظرًا إلى اتجاه النظام العالمي إلى شكل متعدد الأقطاب، ليحل محل «حقبة أحادية القطب» لواشنطن، التي كانت فيها القوة المنفردة؛ فإن الوضع المستقبلي للدولار الأمريكي، باعتباره العملة العالمية المسيطرة، يواجه مستويات جديدة من التدقيق والمراجعة من قبل المعلقين والمحللين الغربيين.
من جانبه، أوضح «جوزيف سوليفان»، المستشار الاقتصادي السابق للبيت الأبيض في مجلة «فورين بوليسي»، أن «الحديث عن زوال الدولرة، لا يزال يلوح في الأفق»، وأنه حتى مع سعي الدول المنافسة إلى تنويع احتياطاتها الأجنبية، وتعزيز عملتها المشتركة الخاصة بها؛ فإن سقوط الدولار «قد يكون هو مشهد النهاية المنتظر». وفي هذا الصدد، أشارت «نعومي روفنيك»، و«ليبي جورج»، من وكالة «رويترز»، إلى أن التنافس بين «الولايات المتحدة»، و«الصين»، والمخاوف بشأن سقف الديون الأمريكية، والتداعيات الاقتصادية العالمية المستمرة من حرب أوكرانيا، كلها عوامل «وضعت مكانة الدولار كعملة مهيمنة في العالم، تحت إعادة تقييم جديد».
ومن خلال تزايد الدعوات التي ترى أن «هيمنة الدولار»، قد «ولت»؛ رأى «أندريه كوستين»، من بنك «في تي بي»، أن «العصر التاريخي الطويل للدولار يقترب من نهايته». في حين أشار «فيليب موت»، من موقع «بزنس إنسايدر»، إلى قيام «الصين»، «بإبرام اتفاقيات بعملات غير الدولار»، لرفع المكانة العالمية لعملتها «اليوان».
وفي حين أضحى الدولار الأمريكي في الوقت الحاضر، هو «العملة الدولية المسيطرة على الاقتصاد العالمي» -ومن المرجح أن يظل كذلك في المستقبل القريب- فإن حديث المحللين وصانعي السياسات حول إزالة الدولرة، يتناول كذلك استمرار السيطرة الغربية على التمويل الدولي. وتأكيد الدور المهم الذي يلعبه «الدولار»، حاليًا في الاقتصاد العالمي؛ أشار بنك «التسويات الدولية»، إلى أن إجمالي حجم التجارة المُنفذة به في عام 2022، بلغ حوالي 6.6 تريليونات دولار أمريكي، مع وجود 90% من التعاملات العالمية تستخدمه من جانب واحد على الأقل.
علاوة على ذلك، فإن وضع الدولار يرتكز أيضًا على قوة سوق وزارة الخزانة الأمريكية البالغة 23 تريليون دولار. وفي تأكيد لهذا، أشار «براد سيتسر»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أن مدى «عمق، وسيولة، وأمان سوق وزارة الخزانة الأمريكية»؛ يعد «سببا كبيرا»، لبقاء الدولار عملة احتياطية رائدة». وأضافت «روفنيك»، و«جورج»، أن هذا يعني أن الاقتصاد الأمريكي، والاعتماد على الدولار في المعاملات والتجارة؛ يُنظر إليه على أنه «ملاذ آمن»، حتى بالنسبة إلى منافسي الولايات المتحدة.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ فإن ريادة الدولار في التجارة العالمية قد أفادها بشكل كبير في زيادة نفوذها الاقتصادي لخدمة أهدافها الجيوسياسية. وأوضحت «روفنيك»، و«جورج»، أن «الدولار القوي»، له «سلطة على تجارة السلع الأساسية». وتسمح هذه الديناميكية لصانعي السياسة في واشنطن، «بإعاقة الوصول إلى الأسواق» للمنتجين ممن تعتبرهم منافسين جيوسياسيين، مثل إيران، وروسيا، وفنزويلا. ومن خلال استخدام نظام عقوبات واسع النطاق في جميع أنحاء العالم -والذي لا يستهدف الدول المنافسة فحسب، بل أيضًا أولئك الذين يتعاملون مع هذه الدول- أشارت «جامعة كولومبيا»، إلى أن هذه تعد «استراتيجية فعالة» لأمريكا للحفاظ على مكانتها السياسية والأمنية على المشهد الجيوسياسي العالمي.
ومع ذلك، فقد أوضح «سوليفان»، أن هيمنة الدولار الأمريكي على الشؤون الاقتصادية العالمية، «مثلت دائمًا سلاحا ذا حدين» لواشنطن، من حيث إنها «ترفع تكلفة السلع والخدمات الأمريكية إلى بقية العالم»، ما يُقلل من الصادرات، وتدني عدد الوظائف الأمريكية. وفي غضون ذلك -وجنبًا إلى جنب مع المجال الجيوسياسي، في عام 2023- خلص إلى أن تأثير الدولار «في الأمريكيين في الداخل بات يزداد حدة»، في حين أن جانبه الذي «يستهدف منافسي أمريكا في الخارج أصبح محدودا».
ووفقا لعديد من المحللين، فإن هناك بالفعل «أدلة واضحة»، على أن قبضة الدولار العالمية آخذة في الضعف والتراجع. وبحسب «صندوق النقد الدولي»، انخفضت حصته في احتياطيات النقد الأجنبي إلى أدنى مستوى لها في 20 عامًا، وذلك في الربع الرابع من عام 2022، عند 58%. وعلى النقيض من ذلك، استشهد «بنك التسويات الدولية»، بارتفاع حصة المعاملات العالمية المنفذة باليوان الصيني «من لا شيء تقريبًا قبل 15 عامًا، إلى 7%» بحلول عام 2022.
وفي الوقت الحالي، فإن النمو المستمر والمتوقع للاقتصاد الصيني خلال الفترة المقبلة، وتكامله التجاري الوثيق في الشرق الأوسط وإفريقيا، قد يجعل من المرجح أن يظهر «اليوان»، بصورة أكبر في احتياطيات البنوك المركزية لدول تلك المنطقة والقارة برمتها، على الرغم من أنه لا يزال بعيدا عن مستوى منافسه الأمريكي. وأشار «ميرا تشاندان»، و«أوكتافيا بوبيسكو»، في بنك «جي بي مورجان»، إلى أنه في حين أن حصة الدولار في الفواتير التجارية الخارجية لم تتغير إلا قليلاً خلال العقد الماضي؛ فإن الانخفاض في رصيد احتياطي البنوك المركزية من النقد الأجنبي، يعني أن هناك «بعض مؤشرات نزع الدولرة من الاقتصاد العالمي».
ومع وجود منافسين جيوسياسيين بارزين، من المرجح أن يأتي التحدي الأبرز لهيمنة الدولار من مجموعة من الاقتصادات، التي تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها في الاقتصاد العالمي. وفي ظل صدور توصيات «ورقة السياسات العامة» في فبراير 2023 من قبل «الخارجية الصينية»، بعنوان «الهيمنة الأمريكية ومخاطرها»، فقد أٌشير فيها إلى أن الدولار الأمريكي هو «المصدر الرئيسي لحالة عدم الاستقرار واليقين التي طالت الاقتصاد العالمي»، وأن واشنطن «تقمع خصومها عن عمد بآليات الإكراه الاقتصادي»، كما أن «بكين»، في المقابل صعدت من جهودها لانتزاع القوة المالية الأمريكية.
وفي حين أن «اليوان»، و«الرنمينبي»، الصينيين غير قادرين على مضاهاة قوة الدولار بمفردهما في الوقت الحالي، فإنه عند اقتران قوتهما بالقوة الاقتصادية للأعضاء الآخرين في مجموعة «البريكس»؛ (البرازيل، وروسيا، والهند، وجنوب إفريقيا)، يؤكد المعلقون الغربيون أنه قد تكون هناك منافسة قوية على عملاتها.
ولعل من الوسائل الأساسية المقترحة حتى الآن لكيفية تحدي «مجموعة البريكس»، للدولار، هو الاعتماد على قوة عملتها التجارية المتبادلة. وفي اجتماع لوزراء خارجية دول المجموعة، بجنوب إفريقيا في الأول من يونيو 2023، تحدث المسؤولون عن خطط متقدمة للتوصل إلى «عملة مشتركة جديدة». وعلقت «وكالة بلومبرج»، بأن هذه العملة، قادرة على حمايتهم من وطأة العقوبات الغربية الحالية أو المحتملة. ونظرًا إلى أن «روسيا»، أحد أعضاء المجموعة، والتي تخضع حاليًا لأقوى العقوبات الغربية؛ فقد أشارت «كيت بارتليت»، من «إذاعة صوت أمريكا»، إلى أنها هي القوة «التي تقود الدفع باتجاه إنشاء عملة مشتركة»؛ لتحدي هيمنة الدولار على الاقتصاد الدولي.
وفي حين أشار «سوليفان»، إلى أن الجهود المبذولة لتقليل هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي ليست جديدة، فقد أكد أن الحالات السابقة لتغيير هذا الوضع، قد فشلت في النهاية لتحقيق «نتائج على أرض الواقع». ومع ذلك، أشار إلى أن دول «البريكس»، مجتمعة تمثل ما يقرب من 40% من سكان الكرة الأرضية، وما يصل إلى ثلث إجمالي الناتج المحلي العالمي في الوقت ذاته، وعليه، فإن الإمكانات الاقتصادية لوجود عملة منافسة للدولار، لا يمكن إنكارها إذا اختارت الاقتصادات المتقدمة الأخرى، مثل «السعودية»، الانضمام إلى هذا التكتل.
وعند تسليط الضوء على الكيفية التي حققت بها دول «البريكس»، «فائضًا تجاريا»، قدره 387 مليار دولار في عام 2022، فقد أشار المستشار السابق للبيت الأبيض، إلى أن دول المجموعة، ستكون «على استعداد لتحقيق هدفها، وهو تحقيق مستوى من الاكتفاء الذاتي في التجارة الدولية فيما بينها، والذي استعصى على اتحادات العملات الأخرى، أو الاتحادات النقدية العالمية في العالم تحقيقها».
وفي ضوء هذه الديناميكيات، أشار «ستيفن جين»، من شركة «يوروزون إس إل جا كابيتال»، إلى كيف أدى تجميد الغرب لنصف الاحتياطيات الروسية من العملات الأجنبية والذهب، البالغ قيمتها 640 مليار دولار، بعد حرب أوكرانيا في فبراير 2022، إلى إعادة تفكير عديد من الدول في عدم الاعتماد على «هيكل التحالف الغربي، وضرورة تنويع احتياطاتها النقدية عبر عملات أخرى». وفي هذا الصدد، رأى «سوليفان»، أن إنشاء عملة منافسة قد يستخدمها أكبر خصوم الولايات المتحدة الجيوسياسيين، مثل «بكين»، و«موسكو»، قد يجعل قدرة «واشنطن»، على فرض عقوبات على منافسيها من أجل خدمة أهدافها السياسية؛ «أداة غير فعالة في قاموس السياسة الأمنية الأمريكية».
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه النقاط الإيجابية، لا تعني أنه لن تكون هناك تعقيدات داخل مجموعة «البريكس»، قد تعرقل مثل هذه الجهود. واستنادًا إلى «سلسلة من القضايا العملية»، سلط المستشار السابق للبيت الأبيض، الضوء على أن «روسيا»، على الرغم من عزلتها الاقتصادية عن الغرب، لا تزال «غير راغبة» في الاعتماد على الواردات القادمة من الصين، وما زالت تفضل إجراء تجارتها الدولية»، بالأصول المالية المقومة بالدولار لشراء بقية وارداتها من دول العالم الأخرى».
وفي نهاية المطاف، فإنه بالنسبة إلى «روفنيك»، و«جورج»، فإن «نزع الدولرة»، على نطاق واسع من الاقتصاد العالمي، أمر «غير محتمل»؛ لأن هذا الأمر سيتطلب شبكة واسعة ومعقدة من المصدرين والمستوردين وتجار العملات ومصدري الديون والمقرضين؛ ليقرروا بشكل مستقل استخدام العملات الأخرى، وهو سيناريو غير محتمل في القريب العاجل».
وبالمثل، أشار «باري إيتشنغرين»، من «صندوق النقد الدولي»، إلى أن أداء الاقتصاد الأمريكي والدولار «يعززان بعضهما البعض»، على حد سواء، مضيفا أنه «لا توجد آلية لإجبار البنوك والشركات والحكومات جميعًا على تغيير سلوكياتها في آن واحد». فيما أقر «إيزاه مهلانجا»، من شركة الاستشارات المالية «ألكسندر فوربس»، بأن فكرة وجود عملة مشتركة لمجموعة البريكس، يمكن أن تؤثر في هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي على المدى القريب؛ «لا تعتمد على أسس ومبررات اقتصادية».
على العموم، في حين إن الدولار الأمريكي سيظل أقوى عملة في المدى القريب، ورغم التركيز على أسس التحول طويل الأجل نحو مشهد اقتصادي متعدد الأقطاب، فإن «مارك تينكر»، من «الصندوق الاستثماري »توسكافوند أسيت مانجمنت»، يرى أن عملية إزالة الدولرة، هي بالفعل «قيد التنفيذ»، ما يعني «أن استخدام الدولار أصبح بشكل أقل في النظام العالمي من السابق»، وشاركه «سوليفان»، التحليل ذاته؛ حيث خلص إلى أنه في حين أن «سيطرة الدولار» على نظام التمويل العالمي من غير المرجح أن ينتهي في وقت قريب، فإن إنشاء عملة مشتركة بين دول البريكس، «سيعمل بلا شك على تراجع مكانة الدولار، والتآكل البطيء لهيمنته».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك