ركز كثير من التحليلات الغربية في الفترة الأخيرة على ظهور نظام جيوسياسي جديد في الشرق الأوسط، وهو النظام الذي وصفه «ستيفن هايدمان»، من «معهد بروكينجز»، بأنه «هيكل أمني إقليمي جديد»، من أجل «إدارة المنافسات»، والذي يرقى إلى أن يكون «أهم تحول في الديناميكيات الإقليمية منذ الغزو الأمريكي للعراق»، تلك التحولات التي وصفتها «سنام وكيل»، و«نيل كويليام»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، بأنها تتسم بـ«نمط غير مسبوق من المصالحة»، بين الخصوم السابقين في المنطقة.
ومع ذلك، فإن هدوء التوترات الإقليمية، لا يعني استبعاد تصاعد الأحداث مرة أخرى. وفي موجز سياسات بعنوان «الدبلوماسية أولاً في الشرق الأوسط.. خلق حوافز بهدف الحد من التصعيد»؛ أوضح «بريان كاتوليس» من «معهد الشرق الأوسط»، أنه على الرغم من أن المنطقة «تمر بتحول تاريخي، عبر فرص غير مسبوقة لبناء علاقات جديدة»، إلا أن الشرق الأوسط، يبقى كلية «على حافة الهاوية»؛ بسبب سلسلة من الصراعات المستمرة والعلاقات المتوترة.»
ومع الإشارة إلى مخاطر تلك الخلافات على الأمن الإقليمي، إلا أنه وفقًا لـ«معهد الشرق الأوسط»، فإن (الإجراءات الضارة التي تقوم بها إيران لزعزعة استقرار المنطقة، وتصاعد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني خلال العام الماضي، وإمكانية تأثير ذلك على «المنطقة بشكل أوسع»)؛ تأتي في «المقام الأول»، وذلك على الرغم من ظهور عديد من السبل لتعزيز المشاركة الدبلوماسية الإقليمية، وعمليات الحوار، لا سيما فيما يتعلق بالتكامل الاقتصادي، والمقاومة المناخية، والتعاون في مجال انتقال الطاقة.
ومع ذلك، فإنه نظرًا إلى عدم القدرة على التنبؤ بالتطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، فقد أدى الشعور بنظام أمني إقليمي جديد، إلى وجود إجماع على ضرورة البدء في اتخاذ مزيد من الإجراءات الثنائية ومتعددة الأطراف من قبل دول المنطقة، للبدء في معالجة القضايا طويلة الأجل، التي من المحتمل أن تؤثر في المنطقة، بغض النظر عن المواءمات السياسة.
ومع وصفه «إيران»، بأنها تمثل «خطر تصعيد محتملا» في الشرق الأوسط عام 2023؛ أشار «معهد الشرق الأوسط»، إلى «حالة عدم يقين أكبر،» هذا العام، بشأن استجابة «طهران»، لحالة الاستياء والاضطرابات الداخلية، وتخصيبها «الأكثر تحديًا» لليورانيوم، وسط «تراجع التقدم» في المحادثات النووية متعددة الأطراف، بالإضافة إلى «الإجراءات المستمرة لتقويض الأمن الإقليمي»، جنبًا إلى جنب مع «الدعم العلني والتعاون مع روسيا».
ومع إشارة «جيسون برودسكي»، من منظمة «متحدون ضد إيران النووية»، إلى أن المسؤولين في طهران «واثقون جدًا»، حاليًا من موقفهم الاستراتيجي، نظرًا إلى قدرتهم على تصعيد برنامجهم النووي «دون دفع ثمن باهظ»؛ فقد حذر «كاتوليس»، من «خطر كبير»، لاندلاع نزاع مسلح بين إسرائيل وإيران، حول التقدم النووي للأخيرة، مضيفًا أنه ما لم تُظهر «طهران»، حدودًا وتوقف التخصيب عند مستوى مطمئن»؛ فإن إسرائيل قد تتخطى المرحلة الحالية من العمل السري، لتوجيه هجمات يُمكن أن تجتذب الولايات المتحدة، بما لها من عواقب محتملة على بقية المنطقة، بما في ذلك الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي.
وبالنظر إلى سبل خفض التصعيد والمشاركة الدبلوماسية مع إيران؛ أوضح «معهد الشرق الأوسط»، أن «دول الخليج عبرت مرارًا وتكرارًا، عن دعمها للدبلوماسية الدولية»، تجاه طهران، وسعت إلى إيجاد طرق لتقليل التوترات معها؛ فيما تأمل «إيران»، في الوقت نفسه «إعادة العلاقات الاقتصادية»؛ لتخفيف الضغوط على اقتصادها المتضرر بشدة. وبالفعل، أوضحت صحيفة «فاينانشال تايمز»، أن مستويات التضخم القياسية «أثارت صراعًا سياسيًا داخليًا»، وسط نظرة اقتصادية «قاتمة» على المدى الطويل للبلاد في ظل عقوبات غربية صارمة.
ولعل استعادة «إيران»، للعلاقات الدبلوماسية من كل من «الإمارات»، و«السعودية»، بوساطة صينية، هي أبرز مظاهر تراجع التوترات في عام 2023. وعلى الرغم من إشارة «دينا إسفندياري»، و«آنا جاكوبس»، و«ديفيد وود»، و«هيكو ويمين»، من «مجموعة الأزمات الدولية»، إلى أن هذا الاتفاق «يوفر خارطة طريق»، لخفض التصعيد الإقليمي، وحل النزاعات على نطاق أوسع؛ فقد أقر «معهد الشرق الأوسط»، بالمثل أنه قد «أظهر بعض الإشارات على مزيد من التخفيف من التوترات»، ومع ذلك، حذر من أنه «لا تزال هناك أسئلة بشأن الاستدامة طويلة الأجل لاتجاه خفض التصعيد»، لا سيما بشأن «استعداد طهران الالتزام بأية اتفاقيات محددة تم التوصل إليها مع منافسيها الإقليميين على المدى الطويل.
وعليه، فإنه لضمان المزيد من التقدم -بناءً على ما تم التوصل إليه حتى الآن من تخفيف للمخاطر على الأمن الإقليمي للإجراءات الإيرانية- رأى «كاتوليس»، أنه «من المهم الاستمرار في التواصل مع «طهران»، وإيضاح «الفوائد التي ستجلبها سياسة خارجية، أكثر اعتدالاً وواقعية لها».
وفيما يتعلق بالمصدر الرئيسي الثاني للأمن الإقليمي، وهو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتأثيره المحتمل في مناطق أبعد؛ فإن خبراء «المعهد»، أوضحوا أن الصراع العربي الإسرائيلي، «أصبح إلى حد كبير أمرًا يطويه النسيان»، إلا أنهم أقروا بأن «التكوين، والهيكل، والأيديولوجيا، والقرارات السياسية الأولية» للحكومة الائتلافية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، بقيادة بنيامين نتنياهو؛ أججت «مصادر توتر عدة».
ومع شغل رموز القومية المتطرفة ومناصري بناء المستوطنات غير القانونية، مناصب حكومية مؤثرة رفيعة المستوى، مثل «إيتمار بن غفير» -الذي وصفته «روث مارغاليت»، في مجلة «نيويوركر»، بأنه «وزير الفوضى»؛ فإن «هيو لوفات»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، حذر من «التأثيرات المتفاقمة»، حيث يمكن أن يمتد الغضب من الانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ليؤجج فتيل القتال في كل من لبنان وسوريا.
وعلى الرغم من أن «معهد الشرق الأوسط»، حث قادة الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي، على «متابعة المبادرات»، التي «قد تخلق ظروفًا مواتية للوصول إلى عملية سياسية تحمي الحقوق الفلسطينية»، وتعزز خيار حل الدولتين، بدلاً من المسار الحالي المفضي إلى «مزيد من عزل الفلسطينيين»، وإعطاء القادة الإسرائيليين انطباعًا بأن بإمكانهم تجاهل القضية الفلسطينية»؛ فقد أدى عدم اتخاذ الدول الغربية خطوة حيال هذا الأمر، لاسيما «واشنطن»، إلى إشارة «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، إلى انتقاد «المساعي الأمريكية الدبلوماسية غير المجدية»، لحل أطول صراع في المنطقة.
ومن ثمّ، أوضح «المعهد»، أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، يجب أن تدرك أن «محاولات التطبيع، والعمل على استقرار الشرق الأوسط، بينما الجزء الأكبر من الفلسطينيين العزل تحت وطأة الاحتلال»؛ «لا تعد مسارًا مستدامًا».
وعلى الرغم من أن سبل حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، تواجه بحواجز ومعضلات كبرى أمام اجتيازها بسبب الطابع الأيديولوجي للحكومة الإسرائيلية الحالية، ورغبتها في ضم المزيد من الأراضي لتوسيع المستوطنات غير القانونية؛ فقد أشار «كاتوليس»، إلى أن جهود التكامل الاقتصادي، ومقاومة التغيرات المناخية، يمكن للقوى الإقليمية أن تجد أرضية مشتركة بشأنها، وبالتالي، تعزيز المشاركة الدبلوماسية لحل القضية الفلسطينية.
ومع اعتبار أن التعاون الاقتصادي بين الدول في الشرق الأوسط، قد يكون «محدودا»، مقارنة بمناطق أخرى من العالم، فقد أشار «المعهد»، إلى أن اتفاقات خفض التصعيد الأخيرة، «تخلق بدورها إمكانات لتعاون أكبر وأكثر إنتاجية» في المجال الاقتصادي. وعلى وجه الخصوص، تعد مجالات النهوض بالطاقة النظيفة، والتعليم، والأمن الغذائي والمائي، والرعاية الصحية، والسياحة، من الخيارات القادرة على تحقيق تكامل أكبر بين دول المنطقة. وبالفعل، أشار وزير المالية السعودي «محمد الجدعان»، إلى الكثير من «الفرص السانحة» للاستثمار الخليجي العربي المحتمل في إيران، بعد عودة العلاقات بين الرياض وطهران. وأوضحت صحيفة «ميدل إيست مونيتور»، أن «البلدين استأنفا التجارة الثنائية بينهما بصورة طبيعية».
ومع إقرار وزيرة التغير المناخي والبيئة الإماراتية، «مريم المهيري»، في أكتوبر 2022، بأن الشرق الأوسط أصبح، يقع في «قلب واقع مناخي جديد» -لاسيما مع ارتفاع درجات الحرارة، والعواصف الترابية الشديدة، التي أدت إلى توقف العديد من المدن، وتفاقم مخاوف ندرة المياه- فقد أشار «كاتوليس»، إلى أن استضافة «أبو ظبي»، لـ«كوب28»، أواخر عام 2023؛ تأتي كمرحلة حاسمة «لإثارة قضية تحول الطاقة، والتخفيف من آثار تغير المناخ»، والدفع قدمًا إلى إنشاء «بنية تحتية مقاومة لتقلبات المناخ»، وتعزيز الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية؛ بهدف تدعيم القدرة على الصمود والتكيف، وتحسين التعاون في عمليات نقل الطاقة، وحل النزاعات القائمة على المياه في نهري دجلة والفرات، وتحسين أنظمة الإنذار المبكر التي ترصد تهديدات الظواهر الجوية الشديدة، مثل الفيضانات والجفاف والعواصف قبل حدوثها.
علاوة على ذلك، فإن قيام الغرب بدعم الجهود لتحقيق هذه الغايات، يتفق مع إصرار «جوناثان بانيكوف»، من «المجلس الأطلسي»، على أن دور «الصين»، في اتفاقية عودة العلاقات السعودية الإيرانية، هو «تحذير للولايات المتحدة، بعدم التخلي عن الشرق الأوسط وحل قضاياه»، فيما حثّ «واشنطن»، على الافتطان إلى أن «العقلية التكتيكية لإدارة الأزمات» -التي تركز الانتباه على التهديدات، بدلاً من اقتناص الفرص- هي نهج «من شأنه أن يخاطر بفقدان إمكانية اغتنامها للفرص الناشئة»، لتعزيز اتجاه خفض التصعيد والتوتر والمشاركة الدبلوماسية.
وبالنسبة إلى نهج الغرب في معالجة المخاطر المستمرة للأمن الإقليمي، ودعم الجهود لتحفيز العلاقات الدبلوماسية بين دول الشرق الأوسط، حث خبراء «المعهد»، صانعي السياسة الأمريكيين، على «إدراك عنصرين أساسيين»؛ أولاً: إن «أي خفض للتصعيد والتوتر يفرض على أرض الواقع مزايا محدودة لا تؤمن الأوضاع الأمنية المستقرة لملايين الأشخاص بشكل كاف؛ «من المرجح أن يكون «مؤقتا» فقط. ثانيًا: يجب «تجنب مخاطر إنشاء عدد كبير من المنتديات، والمبادرات غير المنسقة، والزائفة للتدخل في شؤون المنطقة».
على العموم، شدد «معهد الشرق الأوسط»، على أنه يجب استخدام «الخبرة والدبلوماسية وجهود الوساطة» لمساعدة بلدان المنطقة على تدابير الحوكمة، بعد انتهاء الصراعات». وفي الوقت نفسه، حذر من أن اتباع نهج «حاسم»، إزاء خفض التصعيد والتوترات، «قد يوفر فقط إحساسًا مؤقتًا، أو زائفًا بالاستقرار والسلام نوعًا ما». وفي خضم التغيير الجيوسياسي، وعدم اليقين إزاء الأوضاع المستقبلية، أكد أنه «من الصعب التنبؤ إلى أين ستأخذ هذه الاتجاهات الراهنة المنطقة».
وخلص كل من «وكيل»، و«كويليام»، إلى أنه «فقط مع مرور الوقت والجهود السياسية المستمرة، يمكن أن تؤدي عملية خفض التصعيد إلى تغيير ذي مغزى، وإعادة ضبط إقليمي حقيقي للمنطقة». وفي رأيهما، فإنه سواء أتت هذه الجهود ثمارها أم لا، فإن الاتجاه نحو خفض التصعيد الإقليمي، يشير إلى وجود طرق مهمة لمزيد من الحوار والتعاون، حتى بين المنافسين الإقليميين في الشرق الأوسط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك