ركزت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022، على قدرة «الصين»، على إعادة تشكيل النظام الدولي لصالحها». وعلى الرغم من اهتمامها بالعديد من قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك (ردع إيران، ومكافحة الإرهاب، وأمن الطاقة، والمناخ، ودعم جهود خفض التصعيد الإقليمية؛ فإن تركيزها على التهديدات التي تتعرض لها من «بكين»؛ يؤكد أن الغرب يمر بمرحلة تحول استراتيجية، ستتضاءل معها الأهمية السياسية للمنطقة، ما يُنذر بتداعيات على الشراكات الأمنية القائمة، والتعاون الاقتصادي، والتي مثلت لعدة عقود مصدرا مهما للتعاون مع دول المنطقة.
ومع التسليم بهذه المخاطر منذ إدارة «أوباما»؛ تم تأكيد فكرة محور أمريكي بعيد عن منطقة الشرق الأوسط خلال رئاسة «بايدن». وعقب توليه منصبه، تساءلت «إليز لابوت»، في مجلة «فورين بوليسي»، عما إذا كان بإمكانه «التحكم في شؤون الشرق الأوسط، والاستمرار في فكرة المحور». وخلال زيارته لإسرائيل والسعودية في يوليو 2022؛ تساءل «ناتان ساكس»، من معهد «بروكينجز»، عما إذا كان بإمكانه أن يواصل «ممارسة الدور التقليدي لبلاده» في المنطقة. ومع ذلك، تظل المصالح الاستراتيجية لـ«واشنطن» في الشرق الأوسط، «حاضرة بقوة». وبالإضافة إلى محاولة منع إيران مسلحة نوويًا، وضمان الأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، ومواجهة محاولات الصين وروسيا لشغل مكانها بالمنطقة؛ يظل الدعم الأمريكي لإسرائيل «ثابتًا».
ومع ازدياد التساؤلات بشأن المشاركة الأمريكية المستقبلية في المنطقة؛ عقد «المركز العربي»، ندوة بعنوان، «محور أمريكي بعيد عن الشرق الأوسط.. حقيقة أم خيال؟»، أدارها «خليل جهشان»، من المركز، وشارك فيها «جون ألترمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، و«باتريشيا كرم»، من المركز، و«كريستيان أولريتشسن»، من جامعة «رايس»، و«مارك فينلي»، من نفس الجامعة، و«يوسف منير»، من المركز؛ بهدف مناقشة «أبعاد هذا التهديد المتصور»، وما إذا كان «نظام سياسي دولي جديد متعدد الأقطاب آخذ في الظهور في ضوء هذه التحولات».
في البداية، أوضح «ألترمان»، أنه بعد هجمات 11 سبتمبر2001، «تمت الإشارة إلى أن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، «غير كافٍ»، مع قيام إدارة «بوش»، بنشر ما أسماه «استراتيجية الحرية». وعقب الانتكاسات الأمريكية في العراق وأفغانستان، تبنت إدارة «أوباما»، سياسة «ثابتة، لكن مع المزيد من «الحذر»، لدعم «التحول الديمقراطي» في المنطقة، أثناء وبعد، ما سُمي بالربيع العربي عام 2011. وعلى الرغم من اعتقاد بعض المحللين أن صنع القرار الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر، كان «ناجحًا»، بعد قدرته على القضاء على تنظيم القاعدة؛ فقد رأى أن المحور الأمريكي في المنطقة خلال العقدين الماضيين، كان يتسم بأفعال «لا ترقى إلى مستوى طموحاتهم». وبشكل خاص، اعتبر أن «مصداقية واشنطن قد تراجعت بعد «غزو العراق عام 2003»، وأثرت على سمعتها دوليًا.
وفيما يتعلق بالعلاقات «الأمريكية – الخليجية»، تساءل «جهشان»، عما إذا كانت هناك «فجوة إدراك»، بين الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط، حول التوقعات المتبادلة بشأن الأمن والسياسة والاقتصاد. ومن جانبه، أصر «ألترمان»، على أنها «قابلة للتقارب»، وأن هذه الفجوة أفضل من «فجوة حقيقية» في السياسة، ومع ذلك، أشار إلى أنه يجب تأسيس «نهج أكثر منطقية»، للمشاركة الأمريكية، وخاصة في ظل توقع بعض الشركاء الإقليميين، بوجود طويل الأمد للقوات الأمريكية في المنطقة.
وعلى الرغم من ذلك، أشار إلى التراجع في عدد الحلفاء الأمريكيين بالشرق الأوسط «من الراغبين في اتخاذ واشنطن، شريكًا أمنيًا كاملاً، مع رغبتهم أيضًا في أن يكونوا غير منحازين في عالم متعدد الأقطاب»، موضحا كيف «توقع» شركاؤها بالمنطقة أن باستطاعتهم «توجيه» اهتمامها لاحتياجاتهم الأمنية؛ في حين أنه «لا يوجد التزام مستمر منها للقيام بدورها -ليس فقط في المنطقة- ولكن أيضا على مستوى العالم». ومع ذلك، أصر على أنه يمكن «إيجاد طريقة لمعالجة هذا الاختلال، من خلال «مناقشة الطرفين بوضوح ما يخص توقعاتهم بشأن بعضهم البعض.
وعند مناقشة المخاطر الأمنية الناشئة عن «إيران»؛ رأى أنها تشكل «تهديدا»، حيث «يواصل وكلاؤه بالمنطقة تهديد الشركاء الأمريكيين، والمصالح الأمريكية». وفي تناوله للاختلافات حول السياسة تجاه إيران بين الولايات المتحدة ودول الخليج؛ أشار إلى كيف ترى الأخيرة أن «طهران ستظل «دائمًا مشكلة قائمة، يجب إدارتها»، في حين تصر «واشنطن»، على أن القضايا المحيطة بإيران، يجب «حلها، وسيتم حلها»، وهو نهج يحاول معالجة القضايا دون تقدير التعقيدات المحيطة بالأمر.
ومع تساؤل «جهشان»، عن رد دول الخليج على زيادة التعاون الأمني الروسي الإيراني، وسعي «موسكو»، لتزويد طهران، بطائرات مقاتلة محدثة؛ أوضح «ألترمان»، أن دول الخليج عبرت عن قلقها إزاء هذه التهديدات ووسعت شراكاتها الأمنية للرد على هذه المخاطر. ومع ذلك، «انتهجت أسلوب التفاوض معها، بدلاً من المواجهة»، مع «التركيز على ما يخدم مصالحهما المشتركة». ويتناقض هذا مع نهج «واشنطن»، وإسرائيل الداعي إلى التصعيد ومنع إيران النووية بالقوة، وهو الأمر الذي سيكون له عواقب كبيرة على الأمن والنمو الإقليمي.
من جانبه، أشار «أولريتشسن»، إلى أن الحديث عن وجود محور أمريكي في المنطقة «مبالغ فيه»، و«يُساء فهمه»؛ لكنه أكد أن «إدراك متغيرات المشهد «في الخليج، «قوية جدًا»، بشكل بات يترجم في سياسات أعضاء مجلس التعاون للدور الأمريكي المستقبلي حول شؤونهم الأمنية، مشيرا إلى أن ترامب «من خلال عدم رده على طهران، جراء هجمات وكلائها على السعودية عام 2019، قاد «تغييرًا في سلوكياتهم»، حيث بدأت السعودية والإمارات في التواصل معها؛ «لمحاولة تهدئة» التوترات الإقليمية في غياب الردع الموثوق به من قبل واشنطن، وبالتالي قد يكون هذا بمثابة مقدمة للاتفاق السعودي الإيراني، الذي توسطت فيه «الصين».
وفي تفسيره للتوترات التي تعرضت لها العلاقات «الأمريكية – الخليجية»؛ أوضح أنه على الرغم من قيادة «واشنطن»، للجهود الغربية لدعم أوكرانيا ضد روسيا منذ فبراير 2022، والانسحاب الفوضوي لأفغانستان في عام 2021، فقد فشلت في تحقيق نجاحات تطمئن بها شركاءها في الخليج، بأنها «حليف وشريك دفاعي موثوق به»، وخاصة أنها لم تستطع تقديم أي شيء في أوكرانيا، يمكن من خلاله «تغيير هذه الصورة».
وفي إطار هذا الواقع، أشارت «كرم»، إلى كيفية «إعادة تأكيد تصورات الانسحاب الأمريكي من المنطقة»، من خلال العديد من الإجراءات، مثل تراجع «إدارة ترامب عن تعهدها بالدفاع عن السعودية عام 2019 -كما تمت الإشارة». وفي حديثها عن منافسة القوى العظمى في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط؛ أوضحت أن العقد المقبل، سيتشكل من خلال «الطريقة التي تدير بها واشنطن وبكين تنافسهما»، مشيرًة إلى أن الصين بدأت بالفعل جهودًا لتأسيس «شبكة تحالفات»، بما في ذلك مع إيران والسعودية، مع حذرها من التورط في القضايا السياسية الإقليمية، مؤكدة أنه «من المحتمل أن يتم توريطها بشكل أكبر مع ظهور تحديات جديدة». وبالتالي، ستكون النتيجة مشاركتها للدور الأمريكي في المنطقة مستقبلا.
وبالمقارنة مع تصورات واحتمالات «التخلي» الأمريكي عن شركائها الإقليميين خلال العقد الماضي؛ أشارت إلى الأهمية المتزايدة لديناميكيات القوة الناعمة من قبل «بكين»، وتمكنها من «البقاء بعيدًا عن النزاعات» وبناء سمعة كونها «قوة محبة للاستقرار».
وعند تناول الأبعاد الاقتصادية لتبني «الولايات المتحدة»، «محور اهتمام آخر»، بعيدًا عن الشرق الأوسط، أشار «فينلي»، إلى أن حجم العلاقة الاقتصادية بين «واشنطن»، و«الخليج»، «صغير للغاية»، في الوقت الذي بلغ حجم التجارة الثنائية بين هذه الدول، و«بكين»، عام 2021، ما يقرب من أربعة أضعاف قيمة ذلك بالنسبة لأمريكا. وبالإشارة إلى تدفق ما يقرب من ثلث إمدادات النفط العالمية، عبر «ممر استراتيجي واحد»، هو مضيق هرمز، فإن ذلك، في رأيه يبرر سبب وجود مقر للقيادة المركزية الأمريكية في الخليج منذ عقدين من الزمن؛ وعليه، أوضح أن المنطقة ستظل ذات أهمية كبرى للمصالح الأمريكية، «طالما أن اقتصادها يعتمد على النفط»، و«طالما أن المنطقة لاعب لا يستهان به في أسواق النفط العالمية». ومع تأكيده أن التحول العالمي للطاقة مسألة يشوبها الكثير من عدم اليقين، خلص إلى أن الأهمية المستمرة للشرق الأوسط بالنسبة لأمريكا، و«من المرجح أن تستمر عقودا قادمة».
وحول ما يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل؛ أوضح «ألترمان»، أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، «يبدو أبعد من أن يتم حله» أكثر من أي وقت مضى؛ في حين أشار «فينلي»، إلى أن الحديث عن وجود محور أمريكي آخر بعيدًا عن الشرق الأوسط، لا يشير بالضرورة إلى «تبني محور بعيد عن دعم إسرائيل».
ووسط تحليلات أعمق لـ«العلاقة بين أمريكا وإسرائيل»؛ أكد «منير»، أنه «من الصعب تحديد شكل رئيسي لملامح العلاقات بينهما في الوقت الحاضر؛ لكن مبيعات الأسلحة لا تزال «في قلب» علاقاتهما. ولتوضيح ذلك، أشار إلى أن الحجة التي قدمتها إسرائيل إلى صانعي السياسة والمواطنين الأمريكيين، هي أنها تمثل «ديمقراطية وحيدة» في منطقة تتنافس فيها واشنطن على النفوذ، على الرغم من أن مصير النظام العنصري فيها، قد يكون نفس مصير النظام العنصري في جنوب إفريقيا خلال الحرب الباردة، حيث صورا كلتا الحالتين أن هذا النظام بنى «بؤرا استيطانية تابعة لأمريكا، وكانت حجة الأخيرة للتدخل، هو تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب أثناء حربها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وبتفصيل أكثر، أشار إلى أنه منذ بداية الحرب على الإرهاب، قامت «الولايات المتحدة»، و«إسرائيل»، «بتعزيز الهجمات التي تنال من المعايير العالمية»، فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية ضد المدنيين، مستشهدا بالضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، وكيف أن التصريحات التي تؤكد «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، أصبحت «قاعدة مسلما بها»، من قبل المسؤولين الأمريكيين، بغض النظر عن سياقها أو ظروفها أو نتائجها.
وبالإشارة إلى «المعايير المزدوجة»، الواضحة في السياسة الخارجية الأمريكية، أوضح «منير»، أن الولايات المتحدة في بعض الحالات، مثل أوكرانيا، «تتحدث بفخر وبقوة»، عن أهمية «نظام دولي قائم على القواعد»، لكن في حالات أخرى، مثل الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتم تطبيق «نهج مختلف تمامًا» لقواعد حماية حقوق الإنسان بصفة عامة.
وبالنسبة إلى مستقبل العلاقات «الأمريكية-الإسرائيلية»، رأى أن التأثيرات الكبرى لمجموعات المصالح المؤيدة لإسرائيل في واشنطن، والدعم التاريخي من قبل الإدارات الأمريكية لها، هي عناصر «يمكن تغييرها»، وكيف أنه بمرور الوقت سيكون «من الصعب» بالنسبة لمؤيدي إسرائيل في الغرب، الحفاظ على شعارتهم الراسخة، «والقيم المشتركة»، مع تزايد الانتهاكات في الأراضي المحتلة، وهو ما أصبح معروفًا على نطاق واسع للمجتمع الدولي.
على العموم، ففي حين أن الخبراء الغربيين في الندوة، كانوا «منقسمين»، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة بصدد الاهتمام بمحور استراتيجي آخر بعيدًا عن الشرق الأوسط؛ فقد كان هناك «اتفاق واسع»، على أن تصورات دول الخليج تجاه احتمالات «التخلي» الأمريكي عنها، أو احتمالات كون «واشنطن»، شريكًا أمنيًا غير موثوق به، يضر بما يكفي بالعلاقات الأمريكية الخليجية بشكل كبير في الوقت الحاضر والمستقبل أيضا.
ومع ذلك، تمت الإشارة إلى وجود اختلافات في الرؤى السياسية المتبادلة بين الطرفين، وخلص «ألترمان»، إلى أن «التوجهات الحالية في المنطقة»، تعد «غير متوافقة مع نظيرتها الأمريكية»، ما لم يتم «الاتفاق بشأنها». في حين أصر «أولريتشسن»، على أنه نظرًا إلى طبيعة تصورات دول الخليج عن احتمالات التخلي الأمريكي عنها؛ فإنها تفكر الآن بنشاط في الشكل الذي قد يبدو عليه «خليج ما بعد واشنطن»، والشرق الأوسط بشكل أوسع، لاسيما أن هذه الدول تتطلع الآن إلى تلبية احتياجاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك