تركز النقاش بين الخبراء الغربيين في الفترة الأخيرة حول الشرق الأوسط؛ على سلسلة من الأحداث، التي يُنظر إليها على أنها «مؤشر على تحول استراتيجي جيوسياسي كبير في المنطقة». وبالتوازي مع الحديث عن ظهور «محور أمريكي بعيدًا عن الشرق الأوسط»؛ بغرض تركيز الانتباه على الصين، ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ علق «بيتر بيكر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، على اتفاق عودة العلاقات بين السعودية وإيران، في مارس 2023، بأنه «يقلب دبلوماسية الشرق الأوسط»، وينبئ بظهور نظام متعدد الأقطاب يجعل دول المنطقة، بما في ذلك الخليجية، تستطيع ممارسة المزيد من السياسة الخارجية والاستقلال الاقتصادي بمنأى عن شركائها الأمنيين القدامى.
وبالنسبة إلى المراقبين الغربيين، أكدت عودة سوريا إلى الجامعة العربية، على النمط الجديد لمثل هذه التحولات. وأشار إيشان ثارور، في صحيفة واشنطن بوست، إلى أنها تعكس الوضع الطبيعي الجديد للشرق الأوسط، كما وصفها ستيفن هايدمان، من معهد بروكينجز، بأنها تشير إلى نظام شرق أوسطي جديد مبني على هيكل أمني إقليمي لإدارة الخلافات الإقليمية بين دول الخليج من جهة، وإيران وحلفائها ووكلائها من جهة أخرى، مضيفا أن الإجراءات الإقليمية الأخيرة، تُظهر أيضا تحركًا نحو المشاركة البناءة، من خلال تعزيز البراغماتية المتزايدة والواقعية، على حساب الانقسامات الجيوسياسية والطائفية، التي قسمتهم عقودا.
وعلى الرغم من تأكيد جون ألترمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن عودة دمشق، إلى الجامعة العربية، يمثل علامة أخرى على عودة المنطقة إلى الوضع السياسي السابق؛ فقد أصر مع ذلك على أنه فيما يتعلق بالتغيير الإقليمي الأوسع؛ فإن المتغيرات الأخيرة، ليست ضمانًا على نتائج مستقبلية بعينها، مؤكدا أن المنطقة ما زال ينتظرها بعض الأوقات الأكثر تحديًا، موضحا أن مجموعة متزايدة من العوامل، معظمها بعيد عن المنافسة الجيوسياسية بين القوى الإقليمية، هي ما تشير إلى أن المنطقة على وشك تغيير جذري.
وبالتركيز على قضايا المناخ، طويلة الأجل، رأى أن ندرة المياه، مشكلة متنامية في عديد من دول الشرق الأوسط، مع زيادة عدد السكان بجميع أنحاء المنطقة، ما يضع مزيدًا من الضغط على احتياطيات المياه العذبة المحدودة، بينما يمثل بناء السدود من قبل دول المنبع تأثيراً بالغًا، على تدفق المياه إلى بلدان المصب، فيما جاء الجفاف، وتراجع إنتاج المحاصيل نتيجة منطقية لذلك.
وتأكيدًا لهذا التحليل، لاحظت ميجان فيراندو، من معهد الشرق الأوسط، كيف أن دول المنطقة معرضة بشكل استثنائي للمخاطر المرتبطة بضمان تدفق المياه وأمنها، مشيرة إلى أن سوء إدارة الموارد المائية، يؤدي إلى تدهور بيئي وانعدام للأمن الغذائي، ما يؤثر في الوظائف، ويزيد من التفاوتات الاجتماعية، ويترك المجتمعات أقل مقاومة للصدمات المناخية.
وبالإضافة إلى ذلك، رأى ألترمان، أن درجات الحرارة غير الصالحة للحياة، شائعة بشكل متزايد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مع عواصف ترابية تؤثر في الحياة اليومية، وزحف التصحر الذي دفع المزارعين إلى ترك الريف إلى حياة هامشية في المدن. وفي كلتا الحالتين، جاء تقييمه قاتما؛ مفاده غياب بارقة أمل في الأفق.
وفي سياق التحذيرات الصادرة عن البنك الدولي، من حدوث ركود عالمي عام 2023، أشار الباحث، إلى بيئة مالية أقل ملاءمة، في الشرق الأوسط من ذي قبل، حيث أصبحت الأسواق أكثر تشككًا في ديون الأسواق الناشئة، وبالتالي، ارتفعت تكاليف الاقتراض بشكل حاد. وفي ضوء محدودية رغبة وقدرة صندوق النقد الدولي على التدخل في المساعدة الاقتصادية بالمنطقة حاليًا، فقد اقترح أن هذه العوامل مجتمعة، ستعمل على تقليل قيود الاستثمارات الرئيسية في الاقتصادات الوطنية للدول لبعض الوقت في المستقبل، مع استمرار المسؤولين والاقتصاديين في السعي إلى إيجاد طرق لتحفيز اقتصاداتهم في أعقاب كوفيد-19، واندلاع حرب أوكرانيا.
علاوة على ذلك، ذكر أن التحول الوشيك للطاقة، هو الذي سيؤثر في جميع الدول في المنطقة، موضحا أن البلدان المصدرة للطاقة، قد ساعدت في تعزيز اقتصاد المنطقة بأكملها من خلال الدعم المالي والمساعدات. ويشهد التحول المتوقع في سوق الطاقة العالمي، قيام المصدرين بمنح أولوية لنهج التركيز الداخلي للتمويل، وتنويع اقتصاداتهم، استعدادًا لمستقبل ما بعد الهيدروكربونات.
وفي تأكيد لهذا، تمت الإشارة إلى قيام السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، بوضع شروط أكثر إحكامًا وضبطًا لمساعدتهم الاقتصادية المقدمة إلى دول في الشرق الأوسط، من أجل ضمان الاستقرار على المدى الطويل في المنطقة. وأشارت كارين يونغ، من جامعة كولومبيا، إلى رغبة دول المنطقة، التي كانت تعتمد في السابق على الدعم الممنوح من الخليج، في تحمل مسؤولية سياساتها الاقتصادية وتقوية قدراتها المالية.
ومع ذلك، ربما تكون هناك علاقة بين المشكلات المرتبطة بتحول الطاقة، والعوامل المناخية وتحديدًا العلاقة بين المياه وإنتاج الطاقة في خلق نوع من الازدهار والتطور لدول المنطقة. وأوضح أندريه كوفاتاريو، من معهد الشرق الأوسط، أنه سيكون هناك حاجة إلى تخطيط استراتيجي دقيق؛ لإنتاج الطاقة المتجددة، علمًا بأن مصادر الطاقة، مثل الهيدروجين على وجه الخصوص، تتطلب كميات كبيرة من تدفقات المياه الثابتة؛ وبالتالي العثور على الموقع المناسب لإنشاء هذه المرافق، يمكن أن يخل بحالة الأمن المائي في بعض المناطق.
وعن الأهمية المتزايدة لاستخدام التكنولوجيا المتطورة في الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بكيفية تحسين ملامح التغيير الإيجابية في مجالات التجارة، وأنماط الاتصالات، وأسواق العمل وتسريع وتيرتها، رأى ألترمان، أن المنطقة ستحتاج إلى إظهار سمات الإبداع، والمرونة الكافية، لضمان أن تساعد التطورات التكنولوجية على تحقيق الازدهار والأمن مستقبلا. ومع ذلك، حذر من الفشل في القيام بذلك، أو التخلف عن بقية دول العالم في هذا المسار، من خلال الافتقار إلى الاستثمارات، وعمليات الإصلاح المعنية، وهو ما يمكن أن يعيد دول المنطقة إلى الوراء، بدلاً من مساعدتها على المضي قدمًا.
وفي حين أن دول الخليج، قد أثبتت نفسها بالفعل، كقادة بارزين في الاستثمارات التكنولوجية -وهو ما ظهر كمكون مهم في مشروع رؤية السعودية 2030- فقد سلط محمد سليمان، من معهد الشرق الأوسط، الضوء على التفاوت التكنولوجي الموجود بالفعل حاليًا، حيث تتخلف بلدان، مثل لبنان، والعراق، بشكل غير مرضي عن جيرانها، فيما يتعلق باستخدام التطورات التكنولوجية، بمجالات التجارة، والإدارة الحكومية، والأمن.
ومن خلال إشارته إلى أن الضعف المستمر للمجتمع المدني، في عديد من بلدان الشرق الأوسط؛ يعد تهديدًا مستمرًا، للأمن الإقليمي؛ رأى أن الافتقار إلى مجتمع مدني قوي، هو الذي يولد شيئا من السلبية لدى شعوب تلك البلدان، ويعرقل المساهمة النشطة في خدمة المجتمع، ناهيك عن أن التأثير طويل المدى لهذا الافتقار يعمل على عزل حكومات الدول عن شعوب أمتها.
وعند النظر إلى الدعوات المطالبة بتعزيز ريادة الأعمال، والتفكير في مستقبل السياسة الاقتصادية، ومجالات التجارة، والتقدم التكنولوجي، والعمل المناخي، والتغير الاجتماعي، والإصلاح السياسي في المنطقة؛ أكد الباحث أنه من الصعب تخيل كيفية التغيير الذي ستقوده الحكومات بمفردها، وما إذا كان سيكون كافيًا لإدارة المشاكل المتصاعدة في المنطقة، وخاصة أن دول المنطقة تبدو مهتمة باقتفاء أثر أقل المسارات خطورة لتعزيز الرخاء والأمن على المدى الطويل.
وبينما أصر على أن تحليله، لا يقصد منه الإشارة إلى أن المنطقة تحتاج إلى تعزيز تبنيها الشامل للمعايير الاجتماعية والسياسية الغربية فحسب، لكنه سعى إلى تحديد كيفية التخفيف من أعباء الحكومات الإقليمية، وتحسين طريقة استجابتها للظواهر المعقدة في مجالات المناخ والاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا والمجتمع المدني، لاسيما أنها ستتفاقم مشاكلها مع مرور الوقت.
وعلى عكس التعليقات التي أدلى بها عديد من نظرائه، أوضح ألترمان، أن منطقة الشرق الأوسط، لن تكون في مثل أوضاعها السابقة، وبدلاً من ذلك، فإنها على وشك التحول بطريقة أو بأخرى مهما كان الأمر، لاسيما في ظل الأسئلة المتعلقة بكيفية تأثير هذه الديناميكية الجديدة على شعوب وحكومات المنطقة نفسها.
وفي ضوء الأهمية البالغة للمخاطر المشتركة -المذكورة أعلاه- خلص إلى أنه من بين العوامل التي وضعها للتدليل على أن الوضع الراهن الجديد في المنطقة، لم تتضح ملامحه بشكل كامل -على الرغم من موجة التغيير الجيوسياسي في الأشهر الأخيرة- فإن أربعة منها على الأقل خارج سيطرة الحكومات الإقليمية جزئيًا، وبالتالي، سيتطلب الأمر تركيزًا متجددًا من صانعي السياسات في جميع أنحاء الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
وبعيدًا عن دول المنطقة، أشار هايدمان، إلى أن المحادثات حول إطار العمل الأمني لواشنطن في عالم ما بعد السلام الأمريكي في الشرق الأوسط، خلال السنوات القادمة، تثير تساؤلات حول طبيعة الدور الأمريكي في المنطقة، مضيفًا أن إدارة بايدن، كانت تكافح، لمواكبة التطورات الإقليمية الأخيرة، حيث أرسل مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، إلى الرياض للتعبير عن استياء أمريكا من البقاء بعيدًا عن الانخراط في اتفاقية عودة العلاقات السعودية الإيرانية.
وبينما أصر مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، على سعي القيادة الأمريكية، لتسهيل جهود المصالحة في الشرق الأوسط في أوائل مايو 2023، فقد أشار هايدمان، إلى أن تعليقاته لا يمكن أن تخفي مدى عدم اهتمام السياسات الأمريكية بلعب دور في الحسابات الاستراتيجية للفاعلين الإقليميين بالمنطقة.
على العموم، فإن الطريقة التي ستستجيب بها الجهات الخارجية، مثل الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، لهذه القضايا الإقليمية، ذات الأهمية في الشرق الأوسط، ستشكل أيضًا مستقبل النظام والأمن والازدهار في المنطقة بأكملها، بما في ذلك منطقة الخليج.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك