تضرر العالم كله من جراء الحرب في أوكرانيا. أوروبا كانت أول المتضررين. ولكن أحدا من سياسيي أوروبا لم يتعامل مع تلك الحرب برؤية حكيمة، يمكن أن تفضي إلى حلول معقولة من شأنها أن تنهي الصراع بما يحفظ كرامة روسيا ويجنب أوكرانيا مزيدا من الدمار.
العكس هو ما حدث ويحدث.
ذهب الجميع إلى الحرب خيارا وحيدا. وهو ما يكشف عن نية مبيتة لإنهاك روسيا إذا لم تكن هزيمتها ممكنة. هناك حديث عن الخوف من الشيوعية؟ ذلك هو أعتى أنواع الجنون الذي تمكّن من الساسة الذين إما أنهم جهلة لا يفقهون شيئا مما يجري من حولهم أو أنهم يتعمدون السخرية من التاريخ.
الاحتمال الثاني هو الأكثر إقناعا في ظل صعود أسهم طبقات سياسية لم تعد تهمها القيم الأخلاقية التي تبنتها أوروبا بعد الحرب الثانية.
أوروبا لم تعد أوروبا الأخلاقية في غياب رجالها الكبار. وما صعود اليمين المتطرف إلى السلطة إلا جرس إنذار لما يمكن أن تشهده أوروبا من تدهور على الأصعدة كافة وليست السياسة إلا واجهة.
وإذا كانت الأوضاع قد ساءت في بريطانيا بعد أن ترأس بوريس جونسون حكومتها فإن ذلك لا يعني أن الأوضاع في دول أوروبية عديدة هي أحسن حالا. غير أن تورط أوروبا في حرب ضد روسيا، وهو ما كشفت عنه الإمدادات العسكرية الهجومية التي قُدمت مؤخرا لأوكرانيا، يحمل في طياته معنى تحويل أوكرانيا إلى مساحة موت تفصل بين روسيا وأوروبا.
لقد خُيل للبعض أن أوروبا قد خُدعت من قبل الولايات المتحدة ووقعت في سوء فهم ستتمكن من الخروج منه حين تتأكد من أنها تدفع ثمن حرب لم تكن راغبة بها.
ولكن إصرار الساسة الأوروبيين على المضي في خيار الحرب إلى أقصاه يفصح عن أن أوروبا قد وقعت في المصيدة وصارت تستعيد كراهيتها لروسيا. لا روسيا الشيوعية وحدها، بل وأيضا روسيا القيصرية.
عاد اليمين المتطرف بأوروبا إلى زمن الكراهية وعلينا أن نتوقع حدوث المزيد من الانهيارات. هناك ضغط تهريجي لتصفية حسابات هي ليست جزءا من بنية عصرنا الذي بنته أوروبا بعد أن قدمت الكثير من التضحيات.
كما لو أن أوروبا تخون اليوم نفسها وتخذل فكرها الإنساني. وإلا ما معنى الحديث عن روسيا الشيوعية بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة على انهيار النظام الشيوعي الذي كان يحكم كيانا سياسيا لم يعد له وجود اسمه الاتحاد السوفييتي؟ ذلك ما يؤكد أن العالم مقبل على مرحلة أسوأ.
بدلا من أن تكون أوروبا عقلا للعالم وتلك حقيقتها التي تمليها وقائع التاريخ الحضاري المعاصر تحوّلت إلى ماكينة لإنتاج مختلف أنواع الجنون التي ستقودها إلى الضعف وانهيار اتحادها الذي هو مكسب عالمي.
ذلك لأن الحرب في أوكرانيا التي كان للولايات المتحدة دور كبير في التحريض على وقوعها إنما هي حرب أوروبية. حرب تقلق الفضاء الأوروبي وتمهد لعزل روسيا التي لا ترغب الولايات المتحدة في أن تكون شريكة في الخيار الأوروبي المستقل والحر.
عن طريق المساهمة في حرب أوكرانيا تحرم أوروبا نفسها من النظر إلى روسيا باعتبارها شريكا. فحين تتحول روسيا إلى عدوّ لن يكون أمام أوروبا سوى أن تزيد من تسلحها في عودة إلى سنوات الحرب الباردة. وهو هدف أمريكي وضع الأوروبيون أنفسهم في خدمته كما لو أنهم كسروا بوصلتهم وصاروا أسرى خيار هو ليس خيارهم.
لم يكن يسيرا تطويع فلاديمير بوتين أمريكيا. غير أن بوتين كان دائما على صلة بالتوجّهات الأوروبية المستقلة. فالرجل الذي تبنّى مبدأ إحياء روسيا بعد أن تعرّضت للانهيار لم تغب عنه فكرة قيام عالم متعدد الأطراف. هناك الصين التي صارت تتحكم بالعالم عن طريق الريموت كونترول وهناك الاتحاد الأوروبي الذي يجاوره وله معه مصالح مشتركة كثيرة وهناك دول كبرى كالهند والبرازيل والنمور الآسيوية التي يمكن أن تحل على الخارطة ليقوم تعدد ينهي سطوة الولايات المتحدة على العالم.
وسواء كان بوتين على خطأ في حربه الأوكرانية أم لم يكن كذلك فإن أوروبا أخطأت في الدفاع عن مصالحها حين اعتبرت حرب أوكرانيا حربها وهي ليست كذلك. فروسيا التي لم تعد شيوعية لا ترى في أوروبا إلا شريكا اقتصاديا على الأقل.
ولكن الولايات المتحدة محت حقائق كثيرة حين فرضت على أوروبا التي جُنت باليمين المتطرف خيار الحرب.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك