منذ عام 1973 أي ما يقارب من حوالي نصف قرن والعالم يحتفل سنويًّا في الخامس من يونيو بيوم البيئة العالمي، والجميع يحتفل، ولكن هل توقفنا يومًا لنسأل أنفسنا ما الإنجازات الفعلية التي تم تحقيقها على أرض الواقع للمحافظة على البيئة؟
في منطقتنا مثلا –أقصد الخليج العربي– يوجد منظمتان ذات علاقة بالبيئة، وهما برنامج الأمم المتحدة للبيئة التي كان مكتبها في البحرين والآن انتقلت إلى لبنان، وكذلك المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية ومقرها الرئيسي في دول الكويت. ولقد أيقن المتابعون والمراقبون عدمية جدوى وجود المنظمتين، فمكتب الأمم المتحدة فقدت قدرتها وأهليتها القيادية في تفعيل العمل البيئي خلال السنوات القليلة الماضية، وكذلك المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية، فإنها وبعد أن فقدت أحد أهم رجالات البيئة الذي كان يقودها وهو الدكتور عبدالرحمن العوضي رحمه الله فإنها لم تستطع أن تقف على قدميها ومن الظاهر أنها لن تستطيع لفترة زمنية طويلة قادمة، إذن نعتقد أن الدول الخليجية مدعوة إلى إعادة النظر في أهلية هاتين المنظمين، ويجب أن تقف الآن بوضوح أمام هذا الضعف البيئي الذي تسببت فيه هاتان المنظمتان اللتان تشكلان عبئًا ماديًا من غير فائدة تذكر.
وإن كنا لا ندعو إلى غلق تلك المكاتب، وإنما الذي ندعو إليه هو دراسة وضعهما وقياداتهما وأهليتهما لقيادة العمل البيئي في المنطقة، هكذا فقط، فالمواد الإعلامية التي تصدر –على الأقل– عن مكتب الأمم المتحدة تفيد العديد من الكتّاب والباحثين، وأما المنظمة الإقليمية فإنها تحتاج إلى إعادة النظر في كل ما تقدم، فالمقصود –أيها السادة– العمل بجدية لإنقاذ بيئة الإقليم.
والآن دعونا نعود إلى يوم البيئة العالمي.
يوم البيئة العالمي 2023
نحتفل هذا العام بيوم البيئة العالمي تحت شعار (الحلول المتاحة للتلوث البلاستيكي)، ونحن نعلم أن موضوع التلوث بالبلاستيك من الموضوعات الكبيرة التي تمس البيئة والإنسان وكل ما يحيط بالإنسان؛ كغذائه وشرابه وهوائه، فالبلاستك موجود في حياته بصورة لا يستطيع أن ينفك عنها مهما حاول.
تشير التقديرات أنه يُنتج سنويًّا أكثر من 400 مليون طن من اللدائن البلاستيكية في جميع أنحاء العالم، نصفها تقريبًا – وربما أكثر من ذلك– مصمم للاستخدام مرة واحدة فقط، وهذا يعني أنه لا يُعاد تدوير سوى أقل من 10% منها فقط، وأما البقية الباقية منها والتي تقدر بحوالي 19 إلى 23 مليون طن سنويا منها فإنها تتسرب إلى البيئة والهواء والبحيرات والأنهار والبحار، وهذه الكمية تعادل – تقريبًا– وزن برج إيفل 2200 ضعف تقريبًا.
وربما الأسوأ من ذلك كله، هي تلك الملوثات البلاستيكية التي يطلق عليها (اللدائن البلاستيكية الدقيقة)، وهي عبارة عن جزيئات بلاستيكية صغيرة يصل قطرها إلى 5 مم. وتشير التقارير إلى أنه تم الإبلاغ عن العثور على هذه الجسيمات الدقيقة وشظايا البلاستيك وخاصة البوليسترين في الطبيعة والبحار والمحيطات لأول مرة في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، واستمرت الدراسات عليها حتى تم تعريفها بمصطلح (اللدائن الدقيقة) في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واليوم أصبحت البشرية والكرة الأرضية تعاني منها بصورة كبيرة، إذ تم اكتشافها في طعامنا وشرابنا والهواء الذي نتنفس، كما تشير التقديرات إلى أن كل شخص على هذا الكوكب يستهلك أكثر من 500 ألف جزيء بلاستيكي سنويًا، وربما أكثر من ذلك بكثير إذا اٌحتسبت الجزئيات البلاستيكية التي في الهواء. ليس ذلك فحسب وإنما تضر اللدائن البلاستيكية والتي يتم التخلص منها أو تُحرق بصحة الإنسان وبالتنوع البيولوجي، حيث تلوث كل نظام بيئي من قمم الجبال إلى قيعان البحار.
ويبدو أنه في العقود الأربعة الماضية، بدأ يتزايد تركيز هذه الجسيمات بصورة كبيرة وخاصة في المياه السطحية والبحار والمحيطات. وبذلك تزايد القلق بشأن التأثيرات المحتملة للجسيمات البلاستيكية الدقيقة في البيئة البحرية، واكتسبت زخمًا كبيرًا خلال السنوات القليلة الماضية، فزاد عدد الدراسات والتقارير العلمية التي تبحث في هذا الشأن، إلى جانب الاهتمام العام والضغط على صانعي القرار للاستجابة. وعلى الرغم من الحجم الكبير لقاعدة المعلومات السريعة النمو، بشأن انتقال المواد الكيميائية عبر الشبكة والسلة الغذائية إلا أنه لا يزال تقييم مدى خطورة اللدائن الدقيقة على الحياة البحرية قيد الدراسات والبحث، وخاصة فيما يتعلق بالآثار الفيزيائية والكيميائية للجسيمات البلاستيكية الدقيقة في المحيطات والكائنات البحرية، وتحديد سبل معالجة هذه القضية البيئية الشائكة.
اللدائن الدقيقة في البحار
تشير كل التقارير البيئية إلى أنه تم العثور على الحطام البلاستيكي – بما في ذلك الجسيمات البلاستيكية – وبكميات كبيرة بالقرب من المراكز السكانية، وعلى الرغم من ذلك فقد كشفت تلك التقارير أن البلاستيك والجسيمات البلاستيكية وجدت في أبعد المناطق في القطب الشمالي والقارة القطبية الجنوبية إلى قاع البحر العميق. واستنادًا إلى البيانات المتاحة، يبدو أن هناك زيادة كبيرة في تركيزات اللدائن الدقيقة في المياه السطحية للمحيطات وخاصة خلال العقود الأربعة الماضية.
وينقل دوران المياه في البحار والمحيطات البلاستيك العائم حول العالم على مر السنين، وينتج عن هذا الدوران ما يعرف بمناطق التقارب، حيث تميل المواد البلاستيكية الدقيقة إلى التراكم، وتحدث هذه الدوامات المحيطية شبه الاستوائية واسعة النطاق في شمال وجنوب المحيط الأطلسي، وشمال وجنوب المحيط الهادئ، والمحيط الهندي. لذلك فإنه في عديد من الأماكن من الكرة الأرضية تتكون جزر صناعية من تلك القمامة المكونة معظمها من اللدائن، ومن الجدير بالذكر أنه حتى لو تم تنظيف السواحل والبحار من تلك المخلفات البلاستيكية إلا أنه لا يمكن إزالة اللدائن الدقيقة من المحيط.
التأثيرات الفيزيائية
للجسيمات الدقيقة
تعود الآثار الفيزيائية لجسيمات البلاستيك إلى كل ما يعرف بمصطلحين: التشابك والابتلاع، ومع ذلك، فقد ثبت أنه من الصعب إثبات تلك التأثيرات الناتجة من اللدائن الدقيقة. إلا أن الدراسات أظهرت أن الجسيمات الدقيقة التي يتم ابتلاعها عن طريق الكائنات البحرية وخاصة التي تتغذى بالترشيح مثل المحار وبلح البحر، أنها تغلق وتغلف جدار الأمعاء وتحفز رد فعل داخل الأنسجة. وعلى نطاق مختلف، فإن حيتان (البالين baleen) التي تتغذى بكشط سطح الماء، إذ تفتح فمها ليدخل في جوفها كميات هائلة من اللافقاريات الصغيرة الموجودة على سطح الماء وعن طريق تصفية كميات هائلة من مياه البحر فإن هذه اللافقاريات تتسرب إلى الجهاز الهضمي، ومع اللافقاريات الصغيرة فإنه تتسرب كذلك كميات كبيرة أيضًا اللدائن الدقيقة الموجودة في مياه البحر، ومن الطبيعي أن هذه اللدائن تصبح جزءًا من غذاء هذه الحيتان فتدخل معدتها وهذا يؤدي إلى ضغوط إضافية إذا تؤثر في نظام تغذية المرشح داخل فم الحوت.
التأثيرات الكيميائية
للجسيمات الدقيقة
إن ملامح السمية البيئية للمركبات المضافة إلى البلاستيك لتحقيق خصائص معينة؛ مثل المتانة والمرونة ومقاومة الأشعة فوق البنفسجية، معروفة لدى كثير من العلماء وربما العامة بشكل عام، ولكن ما هو غير معروف كم من تلك المواد الكيميائية السامة المضافة إلى البلاستيك يمكن أن تنتقل من جسيم بلاستيكي إلى الكائن الحي، وما إذا كان هذا يحدث عند مستوى سيؤدي إلى تأثير كبير للمواد الكيميائية على الكائن الحي.
ومن المعروف إن مياه البحر تُعد ملوثة بمجموعة متنوعة من الملوثات العضوية وغير العضوية، ولقد وجد أن المواد البلاستيكية تحوي العديد من الملوثات العضوية، مثل مبيد الآفات (DDT) وثنائي الفينول متعدد الكلور (PCBs)، بدرجة عالية، يمكن أن تسبب هذه المركبات آثارًا مزمنة على صحة الإنسان، بما في ذلك اضطراب الجهاز الهرموني (اضطراب الغدد الصماء)، وإحداث تغييرات جينية (الطفرات) والسرطان (مسببة للسرطان).
وبمجرد أن تتناول الأسماك أو الطيور أو الثدييات البحرية هذه المركبات والمواد، فإن تلك المركبات تبدأ بالتسرب من بنية البلاستيك، وتشير الدراسات أن معدل واتجاه انتقال المركبات الثابتة والمتراكمة بيولوجيًا والسامة تعتمد على البيئة الكيميائية في القناة الهضمية والمستويات الحالية لتلك المركبات في الأنسجة، فتتلوث الكائنات الحية باستمرار عن طريق ملامستها لبيئتها وعن طريق تناول طعام ملوث، وهذا طبعًا يشكل عبئًا إضافية للملوثات الواقع على الكائنات البحرية.
وقبل أن نختم، فإننا نعتقد أنه الكرة الأرضية –اليوم– تحتاج إلى عمل سريع، وإلى معالجة هذه القضايا الملحة، وهي التالي:
{ يتدفق حوالي 11 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنويًا إلى المحيطات، وقد يتضاعف هذا ثلاث مرات بحلول عام 2040.
{ يتأثر أكثر من 800 نوع بحري وساحلي بهذا التلوث بابتلاع مواد البلاستيكية والتشابك بها ومخاطر أخرى.
{ يمكن أن يؤدي التحول إلى اقتصاد دائري إلى تقليل حجم المواد البلاستيكية التي تدخل المحيطات بأكثر من 80% بحلول عام 2040؛ وتقليل إنتاج المواد البلاستيكية البكر بنسبة 55%.
هذا واقع بيئي نعيشه، ونحن هنا لا نتحدث عن بلد واحد أو إقليم واحد معزول، ففي الفكر والثقافة البيئية والمحافظة عليها لا توجد حدود جغرافية، فالكرة الأرضية كلها قطعة واحدة والدول كلها دولة واحدة، فما ينتج من مخلفات من تلك الدولة فإنها حتمًا ستصل ذات يوم إلى هنا، ونحن نتأثر به.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك