بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي عام 1989، وانهيار المنظومة الاشتراكية، كتب فوكوياما المفكّر الأمريكي الياباني الأصل، أن سقوط الاشتراكية وحواملها العالمية هو نهاية التاريخ.
وفق فوكوياما فإنّ هزيمة الاشتراكية، وما أعقب ذلك من إعلان الرئيس جورج بوش الأب عام 1991، من الكويت، ولادة «النظام العالمي الجديد» بزعامة الولايات المتحدة، يعني أنّ النظام الرأسمالي قد أكد صلاحيته المطلقة لإدارة مجتمعات تستحقّ الحياة وأنه سقف التطور الاجتماعي.
أكثر من ثلاثة عقود مرّت على ذلك الإصدار الذي حظي باهتمام واسع، وعلى إعلان «النظام العالمي الجديد»، كانت حافلة بالمتغيرات الدولية، حيث ظهرت نماذج هجينة من النظم الاجتماعية، التي أحدثت تغييرا في التسلسل التقليدي للنظم الاجتماعية.
قدمت الصين نموذجًا جديدًا يجمع بين الشمولية وآليات السوق، في ظل استمرار سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على إدارة هذا النموذج، الذي يتقدم بسرعة نحو تهديد مكانة الولايات المتحدة والنظام الدولي، والنماذج الرأسمالية ويكشف عوراتها البنيوية.
إذا كان النظام الاجتماعي الصيني يلفت النظر بقوة، نحو تفوق العقل البشري الاجتماعي، فإنّ تركيا تقدم نموذجا آخر، ينطوي على قدرٍ مهمّ من الفردانية والتميز.
إذا كان النموذج الصيني، يقتحم أنظمة الرأسمالية «الغربية» أساسا، ويقدم بديلا ناجحا لتجاوز الرأسمالية، فإنّ النموذج التركي يقتحم «تابوهات» الفكر الإسلامي، وأنظمة الحكم التي تستند إليه عَبر نماذج هجينة بين أنظمة القومية والإسلام، ويقدم نموذجا يجد حلولا للتناقض بين القومية والعلمانية والديمقراطية، وبين «الإسلام السياسي» و«نظام الخلافة».
بعد فوزه في انتخابات ديمقراطية عامة، يشهد الجميع بنزاهتها وللمرّة الثالثة، يؤكد رجب طيّب أردوغان، نجاح النموذج التركي بحصوله على ثقة الأغلبية في مجتمع إسلامي.
ثمة أهمية خاصة لهذا الفوز، في دولة كبيرة، يتجاوز تعداد سكانها المئة مليون، وتحظى بمكانة جغرافية متفرّدة، بين «الشرق» و«الغرب»، وإمكانيات هائلة، تقوم على إرثٍ تاريخي إمبراطوري، وإرثٍ إسلامي تحكمه دولة الخلافة لمئات السنين.
المرشّح المعارض، الذي نافس أردوغان في مرحلة الإعادة، كليتشدار أوغلو، كان قوميا متطرفا، يحلم بأن يقوم في حال فوزه، بإعادة تجربة مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك، الذي اعتمد معادلة تقوم على التعارض بين الإسلام كدينٍ للمجتمع، وبين الحداثة والديمقراطية.
كان أتاتورك يحلم بسلخ تركيا المسلمة عن تاريخها، ليؤسّس لها هوية جديدة تنتمي إلى العالم «الغربي»، وهو مؤسّس اللغة التركية الجديدة التي اعتمدت الأحرف اللاتينية بدلا من العربية، وجاءت خليطا بين هذه وتلك بخصائص تركية خالصة.
النموذج التركي، يقول إن ثمة جدوى وأهمية لفكّ التعارض بين الإسلام وبين العلمانية والديمقراطية، وإنّ الديمقراطية ليست وصفة للمجتمعات «الغربية» دون غيرها.
إدارة الدولة بحزب إسلامي هو «حزب العدالة والتنمية»، شيء يصب في خدمة الطابع العلماني الديمقراطي للبلاد.
تؤكد تجربة «العدالة والتنمية» أن الدين ينبغي عليه أن يكون في خدمة الدولة والتقدم الحضاري والحداثي.
حاول أردوغان، ومن قبله النظام البرلماني، الذي تتزعّمه، أيضاً، «العدالة والتنمية»، إجراء عمليات تكيف واسعة ولسنوات طويلة، أملاً في قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، لكن كل ذلك لم يحقق الهدف.. وعلى نطاقٍ أوسع، وإذ تسعى تركيا إلى تعزيز دورها في الشرق الأوسط، بعد الانسحاب الأمريكي، يسعى أردوغان، إلى إقامة علاقة متوازنة بين «الأطلسي» ودوله، وبين المحور الروسي الصيني الواعد.
فوز أردوغان، مهمّ جداً، رغم الآثار الضخمة الناجمة عن الزلزال وحالة التضخم، والانخراط في أزمات وملفات معقّدة في المنطقة، لكنه يدرك أنه لا يمتلك الكثير من الخيارات الإستراتيجية بعد أن فشل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما يشكّل حافزاً لتركيا، لتحقيق طموحاتها ومعاقبة «الغرب» الذي يرفض احتضانها.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك