في هذا الزمان الشديد التطور التقني والتقدم العلمي والفني، ومع وجود مئات العيون الصناعية الحادة البصر التي تسبح ليلاً نهاراً في الفضاء، فتتجسس على البشر والحجر، وتُصور باستخدام أحدث التقنيات التي توصلت إليها عقول البشر كل بقعةٍ من الأرض، بل وكل شبرٍ دقيق من كوكبنا أينما كان في هذه الأرض الواسعة المترامية الأطراف، فلا يمكن اليوم إخفاء أو تجاهل أي حدث على سطح الأرض من عيون هذه الأقمار الصناعية التي لا تأخذها سنة ولا نوم، ولا يمكن لأي دولة أن تدَّعي بأن لها أسراراً لا تريد من الدول الأخرى معرفتها والاطلاع عليها، حتى لو كانت مخزنة في أعماق باطن الأرض.
فعيون هذه الأقمار الصناعية وبصيرتها من السماء العليا هي التي تُحذرنا اليوم من شرٍ عقيم قد وقع على الأرض قبل تحذير البشر، وهي التي تنبهنا إلى وجود نكبة مزمنة قد حلَّت على الإنسان في كل أنحاء العالم، فقد أبصرت هذه العيون الساهرة وبدقة شديدة، وكشفت عن ظاهرة عامة في الكثير من دول العالم بأن هناك نقصاً حاداً قد حدث لمياه البحيرات على سطح كوكبنا في مختلف بحيرات العالم، وأن هناك تدهوراً ملحوظاً ومشهوداً قد نزل على مستوى سطح المياه في هذه البحيرات، بل إن هناك من البحيرات التي فقدت وخسرت مساحة عظيمة من أعضاء جسدها والشرايين التي تمدها بالحياة، ومنها ما قد جفَّ كلياً، فلم تبق إلا الأرض الجرداء القاحلة التي لا روح فيها ولا حياة، مما يعني التهديد المباشر لأهم مصدر لمياه الشرب للبشرية جمعاء، وأحد أهم مصادر الأمن الغذائي وأمن الطاقة للناس حول العالم، إضافة إلى خسارة البشرية لبعض الأنظمة البيئية الفريدة من نوعها على سطح الأرض، والتي كانت ثرية ومزدهرة وتتمتع بشتى أنواع الحياة الفطرية النباتية والحيوانية والطيور النادرة والمفيدة صحياً وبيئياً واقتصادياً لسكان الأرض.
وقد نُشرت نتائج عيون الأقمار الصناعية ومشاهداتها من السماء العليا في الفضاء لأكثر من ثلاثة عقود ومراقبتها لمصير الكثير من بحيرات العالم في مجلة «العلوم» المرموقة (Science) في 19 مايو 2023 تحت عنوان: «الأقمار الصناعية تكشف عن انخفاض واسع النطاق في المخزون البحيرات على المستوى العالمي»، كما أن العنوان الرئيس لهذا العدد الخاص من المجلة جاء تحت عنوان: «البحيرات المنكمشة».
فهذه الدراسة الجامعة والشاملة غطت 1051 بحيرة طبيعية في كل أرجاء المعمورة، تتراوح مساحاتها بين 100 وأكثر من 377 ألف كيلومتر مربع، إضافة إلى 922 مخزوناً مائياً حول العالم، حيث قامت بمراقبة وتحليل البيانات والصور التي تم جمعها سنوياً من الأقمار الصناعية ولمدة نحو ثلاثين عاماً حول التغيرات التي تطرأ على مساحة وحجم ومستوى المياه في هذه البحيرات، وبالتحديد في الفترة من 1972 إلى 2020. وعلاوة على المعلومات التي تُقدمها الأقمار الصناعية التابعة لوكالة ناسا الفضائية الأمريكية، فقد أجرت الدراسة تحليلاً شاملاً للمعلومات باستخدام النماذج الرياضية الخاصة بالتغيرات المناخية ودورة المياه. وقد هدفت هذه الدراسة الدولية إلى التعرف على التغيرات في مستوى سطح المياه في العقود الماضية في البحيرات، إضافة إلى التعرف على أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى وقوع ظاهرة انخفاض وانكماش البحيرات التي مسَّت هذه الأجسام المائية الضخمة في معظم بقاع العالم.
فقد توصلت الدراسة إلى استنتاج عام خطير يهدد الإنسانية، وبالتحديد حياة نحو 2 بليون إنسان يعيشون على ضفاف هذه البحيرات التي تخزن في بطنها قرابة 87% من مياه الأرض السطحية العذب الفرات، فيشربون من مائها، ويتغذون على ثرواتها الحية، ويرتزقون من مواردها وخيراتها الوفيرة المتجددة، وهذا الاستنتاج هو انكماش مساحة هذه البحيرات، وحدوث انخفاضٍ شديد ومستمر في معظم البحيرات التي تمت دراستها ومراقبتها خلال الثلاثين سنة الماضية، حيث قدَّر الباحثون نسبة انخفاض حجم المياه في هذه البحيرات التي عددها 457 بحيرة بـ53%.
وهناك عدة أسباب تتحمل مسؤولية هذا الانخفاض العظيم في مستوى سطح البحيرات، وفقدان أحجامٍ مهولة من مياهها. أما المتهم الأول والرئيس فهو الاستخدام والسحب غير الرشيد والمفرط لمياه البحيرات والأنهار التي تصب فيها لأغراض زراعية، أو منزلية، أو صناعية لسنوات طويلة من الزمن، دون أن تحصل هذه البحيرات على التعويض الموازي لهذا الاستنزاف المائي من الأمطار. والعامل الثاني الذي هدد صحة وسلامة هذه البحيرات وجعلها تجف كلياً أو جزئياً، أو تكون على شفا حفرة من الجفاف فهو التغير المناخي وتداعياته المتمثلة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، والذي انعكس مباشرة على حرارة مياه البحيرات وحدوث ازدياد مزمن في عمليات البخر وفقدان المياه نتيجة لهذه الحرارة المرتفعة. كذلك هناك عوامل وأسباب أخرى مثل بناء السدود، وارتفاع نسبة الترسبات الترابية والرملية.
وجدير بالذكر أن هذه الدراسة الحالية لم تتناول البحيرات الصغيرة الحجم على المستوى الدولي مثل خليج توبلي، الذي يعتبر على المستوى القومي كبير الحجم وبالغ الأهمية بالنسبة للمواطن البحريني، ليس من ناحية مساحته فقط، وإنما من ناحية تنوعه الحيوي، وعطائه، وإنتاجه من الثروة السمكية، ودوره في السياحة البحرية في وسط الجزيرة.
فهذا الخليج ومنذ أكثر من ستين عاماً يعاني من عبث الإنسان في أعضاء جسده، وفي الشرايين التي تمده بالروح وتجعله ينبض بالحياة، فعمليات الدفان المستمرة أفقدت هذا الخليج جزءاً مهماً من جسمه، وأدت إلى وقوع خسائر جسيمة في مساحته وحجم مياهه، حيث انخفضت المساحة من أكثر من 24 كيلومتراً مربعاً إلى أقل من ستة كيلومترات مربعة. ومن أهم شرايين الحياة التي انقطعت في الخليج بسبب الدفان هي غابات أشجار القرم، التي تُعد رئة الثروة السمكية في هذه البحيرة، وهي نواة الحياة الغنية بالتنوع الحيوي من روبيان وأسماك وغيرهما، وهي القلب الذي يمد ويزود باقي الأعضاء بالدم اللازم لاستدامة حياة الخليج. فقد أفادت الدراسات بأن مساحة هذه الغابات انكمشت من قرابة 1.5 كيلومتر مربع، إلى أقل من 0.31 كيلومتر مربع، أي 310 آلاف متر مربع فقط، وبدون هذه الشجيرات الحية والنظام البيئي الذي تمثله، سيتحول الخليج إلى مستنقع مائي لا حياة غنية فيه ولا تنوع حيوي.
فظاهرة انكماش مساحة البحيرات وانخفاض مستوى المياه فيها تُعد عالمية، وهي ظاهرة قديمة ومتجددة وليست مقصورة في منطقة جغرافية واحدة، ففي كل بلاد العالم ترى وتشاهد هذه الظاهرة العقيمة، وأسباب وقوعها مشتركة وتتلخص في سوء إدارة الإنسان لهذه الثروة المائية من جهة، والتغير المناخي وارتفاع حرارة المياه من جهة أخرى.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك