ستظل إسرائيل وأنصارها المتشددون يستميتون في محاربة أي اعتراف بالإنسانية الفلسطينية. فهم يصرون في «روايتهم للتاريخ» على الترديد بأن الإسرائيليين هم فقط الضحايا، وهم الذين يعانون من الخسارة، وهم فقط الذين لديهم ما يجب على الآخرين الاعتراف به.
يتم إسكات و / أو شيطنة النقاد الذين يشككون في هذه الرواية التاريخية التي يرددها الإسرائيليون، وعندما تنتهك إسرائيل حقوق الفلسطينيين، فإنهم «ينكرون ويكذبون ويشوهون» ما حدث بالفعل للتو.
سيظل الإسرائيليون يرددون مزاعمهم ويقولون: «هذا لم يحدث». «إذا حدث ذلك، فنحن لسنا مسؤولين. «ربما حدث ذلك، وربما لا، لكننا لم نفعل ذلك وإلقاء اللوم علينا هو تشهير بالدم».
ولعل أبرز مثال كلاسيكي لهذه العنجهية الإسرائيلية هو الأحداث التي تتجلى في النكبة، أو نكبة فلسطين.
أول شيء يجب معرفته عن النكبة أنها حدثت بالفعل فعلا على أرض الواقع ولم تكن من نسج الخيال، علما بأن ضحايا النكبة من الفلسطينيين قد قدموا شهادات حية حول حقيقة ما حدث. تحتوي المحفوظات العسكرية والسياسية الإسرائيلية وعلى تقارير مفصلة من قبل مهندسي خطة التهجير ومنفذيها، كما أشار إيغال ألون إلى ذلك بقوله: «لتطهير الجليل الأعلى وخلق تواصل يهودي إقليمي».
لتحقيق هذا الهدف المتمثل في التهجير والتطهير، استخدمت القوات الإسرائيلية عمليات الطرد القسري وقتلت المدنيين لإرهاب الآخرين ودفعهم إلى المغادرة - وفي النهاية تم اجتثاث700000 فلسطيني.
لم يتوان أول رئيس وزراء لإسرائيل دافيد بن غوريون في وصف النكبة على أنها مثلت «معجزة مزدوجة» - دولة كانت أكبر وأكثر يهودية، فيما أشاد حاييم وايزمان، أول رئيس لإسرائيل، بالعملية ووصفها بأنها «معجزة تطهير الأرض».
نفى الإسرائيليون وقوع مذابح أو أن قواتهم قد أرهبت المدنيين وطردتهم من مساكنهم وأملاكهم. تم تجاهل شهادات الضحايا ورفضت التحقيقات من قبل الكيانات الدولية باعتبارها متحيزة. رد الإسرائيليون بأن العرب فروا لأن قادتهم أمروهم بذلك، لتمهيد الطريق أمام «الجيوش العربية الغازية». لقد أصروا وتحصنوا بالكذب، ثم راحوا يشوشون على أي رواية أخرى للأحداث.
في عام 1971، عايشت أول تجربة من كثب مع واقع النكبة. أثناء سفري إلى لبنان والأردن بعد حصولي على منحة جامعية لجمع قصص اللاجئين الفلسطينيين بعد 23 عامًا فقط من عمليات الطرد والتهجير، أجريت مقابلات مع عديد ممن كانت لديهم ذكريات حية عن الفظائع التي عانوا منها وعاشوها- لقد كانت قصصا شخصية ومفصلة ومقنعة.
بعد ذلك بوقت قصير، مررت بتجربتي الأولى في إنكار النكبة. عند عودتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية كتبت عن كل ما رأيته وعشته في تلك الرحلة. فقد كتب عميد جامعي رسالة إلى المحرر، استنكر فيها عملي كمثال على «معاداة السامية للنازيين الجدد، والبلشفيين الجدد». عندما دُعيت للتحدث عن المقالات التي نشرتها، رد بعض الجمهور بالرفض الشديد.
لقد أوضح ممثل المجموعة التي دعتني رد الفعل العدائي بقوله: «لقد تم تكييفهم (الإسرائيليون) حتى ينظروا إلى الفلسطينيين كمجرد أشياء. لذلك فعندما تتحدث عن الفلسطينيين كبشر وكأناس حقيقيين، فإنك تهدد إنكارهم الذي يحميهم من الاعتراف بجريمة إسرائيل».
لا تزال نفس ديناميكية الإنكار قائمة في إسرائيل حتى اليوم.
كان أحد أعضاء الكونغرس الأمريكية من أصل فلسطيني ينوي إقامة فعالية في ذكرى النكبة الفلسطينية يوم 10 مايو في مركز الزوار بمبنى الكابيتول، بحضور فلسطينيين عاشوا النكبة سنة 1948 ومؤرخين فلسطينيين، إلا أن منظمة يهودية أمريكية كبرى قد بعثت بخطاب إلى رئيس مجلس النواب تعترض على الحدث.
ورد رئيس مجلس النواب مكارثي قائلا: إن الحدث المزمع إقامته «يبدو كأنه» معاد للسامية وتعهد بمنعه قائلا: «لن أسمح بحدوث ذلك في هذا الموقع أبدًا». وبناء عليه فقد تم سحب تصريح باستخدام مركز الزوار في مبنى الكابيتول لإقامة الفعالية، ما أجبر منظميها على البحث عن مكان آخر. بعد ذلك استخدم مكارثي نفسه ذات المكان الذي طرد منه الفلسطينيين لاستضافة احتفال في ذكرى «استقلال إسرائيل».
في شهر نوفمبر من سنة 2022، وبعد أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قرارًا لإحياء ذكرى النكبة، بدأ الفلسطينيون في التخطيط للاستعداد لإحياء ذكرى النكبة في مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك.
رداً على ذلك، دعا الوفد الإسرائيلي إلى المقاطعة، كما راح يضغط على الدول الأعضاء لتجنب المشاركة. وفي رسالة إلى الوفود الأخرى، وصف السفير الإسرائيلي النكبة بأنها «تشويه للتاريخ» و«تزوير مروع» يغذي «كراهية اليهود» ومعاداة السامية. لقد تم تصوير اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة باستخدام عبارة «المخزي» و«الحقير».
تستخدم إسرائيل وأنصارها لغة متطرفة لإسكات النقاد والفلسطينيين، وإنكار واقع غير مريح والتغطية على حالة يأس من خسارة معركة الروايات التاريخية. إنهم يعبرون أيضا عن حالة من الذعر المتزايد بإصرارهم على أن انتقاد إسرائيل يرقى إلى مرتبة معاداة السامية، قائلين إن هؤلاء النقاد قد «خصّوا إسرائيل بالنقد».
في الواقع، يصر هؤلاء المدافعون الإسرائيليون على أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي لا يمكن انتقادها، وهم يسعون بذلك إلى حرمان الفلسطينيين من حق سرد روايتهم التاريخية والاعتراف بإنسانيتهم. هذه عنصرية وهي أصل إنكار النكبة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك