إن لم تخن الذاكرة، فإنه في عام 1994 أو ربما 1995، وذلك قبل صدور الأهداف الـ17 لأهداف التنمية المستدامة والكثير من المفاهيم التي نتكلم عنها اليوم في موضوع التنمية المستدامة، إذ كان الموضوع في بدايته، إذ انطلقت الفكرة في قمة الأرض (ريو 1992)، تمت دعوتي إلى ندوة أقيمت في دولة صديقة، وكان الحضور – تقريبًا – من جميع الدول العربية بالإضافة إلى عديد من الخبراء في حقل البيئة والاقتصاد وأيضًا خبراء من الأمم المتحدة للبيئة، وكان الهدف هو الترويج والتسويق لمفهوم التنمية المستدامة في ذلك الوقت.
في اليوم الأول والثاني تحدث عدد من الخبراء، عن الفقر، والجوع، وكثير من الأمور الأخرى التي تتعلق بالتنمية المستدامة، وأتذكر أنه في واحدة من المحاضرات، طلبتُ أن أسأل المتحدث، فسُمح لي بالتحدث وطرح السؤال، فقلت: «كل هذا الكلام الذي تقولونه منذ الأمس، موجود لدينا في ديننا الإسلامي، فأنتم لم تأتوا بالجديد».
فطلب مني المتحدث أن أشرح فكرتي، بالفعل ذهبت أتحدث عن عديد من النقاط التي تحدث عنها وموقف الإسلام منها، وكالعادة شكرني، ثم واصل حديثه من غير أن يعلق على حديثي.
وفي فترة الاستراحة، تقدم مني المحاضر، وقال لي: «أتسمح لي بالتحدث معك؟».
قلت: «تفضل».
قال بعد كثير من المقدمات: «أنتم لديكم كثير من الأمور في دينكم، فدينكم رائع، ولكنكم قوم تجهلون ما لديكم، فذهبتم تبحثون وتنظرون إلى الحضارات الأخرى وخاصة الغربية، لتأخذوا منها ما تعتقدون أنه ناقص لديكم، فنصيحتي لكم: ابحثوا في دينكم وهذا أفضل لكم». ثم ذهب.
تذكرت هذا الحادث والحديث قبل عدة أشهر عندما كنت في مؤتمر في دولة شقيقة نتحدث عن التدريب والتنمية وما إلى ذلك من موضوعات متعلقة، فعندما طرحت فكرة ارتباط التنمية المستدامة والمنهج الإسلامي اعترض أحد الأخوة الحضور، إذ قال: «إننا نحاول أن نحشر الإسلام في كل الأمور الحديثة والقديمة وكل شيء، فقال إن الإسلام ما هو إلا منهج أخلاقي، ديني، عبادات، وعقوبات وما إلى ذلك فقط، أما التنمية المستدامة فهذا فكر بشري حديث، وليس له علاقة بما تقول».
فنظرت إلى الأخوة المنظمين للاستئذان في الرد، إذ إن وقت تقديم الورقة قصير، فمنحني رئيس الجلسة 5 دقائق فقط، للتوضيح، لذلك قلت:
ماذا تعني التنمية المستدامة؟ أليست التنمية المستدامة تعني أنها تلبي احتياجات الحاضر من دون المساس بمقدرات الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها؟ وألا تقوم على 3 محاور رئيسية وهي: الجانب البيئي، والاقتصادي، والاجتماعي؟
فقال: نعم.
قلت: لنأخذ مثالا واحدا، ويمكن أن نواصل بعد الجلسة إن شئت.
قال: هات ما عندك.
قلت: أتذكر قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وحلم الملك وكيف فسر الحلم وماذا طلب لتنفيذ وتطبيق حلم الملك؟
قال: نعم.
قلت: حسنٌ، ماذا فعل نبي الله يوسف، قام بكل بساطة بتنفيذ الخطوات التالية:
1- زراعة المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والذرة والأرز والشعير وغيرها – وهي المحاصيل ذات غلاف خارجي، وهذه الأغلفة تحميها من الحشرات والكائنات الدقيقة – مدة سبع سنوات، وأعتبر أن هذه السنوات هي سنوات الوفرة، وهذه المحاصيل يمكن أن يتناولها الإنسان والحيوانات.
2- خلال هذه الفترة – السنوات السبع الأولى – يجب أن تقسم هذه الغلال – وهذه يعرفها الفلاح قبل غيره– إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول وهي الكمية الأكبر: تخزن، والقسم الثاني: تحفظ من أجل زراعتها في الموسم التالي، أما القسم الثالث؛ فإنه يستهلك، ولكن بكميات قليلة من أجل العيش والحياة.
3- ثم سوف تأتي بعد تلك السنوات السبع – سنوات الوفرة– سنوات عجاف، وخلال هذه السنوات يمكن استهلاك المحاصيل التي تم تخزينها، إلا أن الاستهلاك يجب أن يكون بحذر شديد حتى لا تنفد كل المحاصيل التي تم تخزينها.
4- ثم بعد كل هذه السنوات ستعود سنوات الوفرة من غير أن يشعر البشر بأي مجهود أو تعسر.
لاحظ –أخي الفاضل– أن سيدنا يوسف عليه السلام نفذ فكرة التنمية المستدامة قبل قرون كثيرة حتى قبل الميلاد، وقبل أن تسمى التنمية المستدامة، قام بالزراعة، والحفظ، والتخزين، والتوفير، والتنظيم، وحساب سنوات الوفرة وسنوات الشدة، ليس ذلك فحسب وإنما فكر في كل الجوانب البيئية والاجتماعية والاقتصادية، هل تعتقد أن سيدنا يوسف عليه السلام جاء بالفكرة من عنده؟ أليست من الله سبحانه وتعالى؟
أما إن كنا نتحدث عن استدامة الأعمال واستمراريتها، حتى وإن كانت قليلة وبسيطة، فإليك الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه المصطفى عليه السلام: «سَدِّدوا وقارِبوا (وهذا الجانب الأخلاقي في الموضوع، وربما تشمل عديدا من الجوانب الأخرى أيضًا) واعلموا أنه لن يُدخِلَ أحدَكم عملُه الجنَّةَ (وهذا الإحسان) وأنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله أدومُها وإن قَلَّ (أليست هذه تعني استدامة الأعمال؟)» أخرجه البخاري ومسلم.
انتهى الوقت المتاح، وفي فترة الاستراحة جاء يحدثني، ويكمل الموضوع، ودعونا نواصل لنستوضح موضوع التنمية المستدامة في المنهج الإسلامي، سواء من خلال حديثنا مع الأخ أو بعد ذلك.
في الفتوحات الإسلامية وخاصة فتح العراق والشام، وفي عهد الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان الناس يتوقعون أنه سوف يقسم الأراضي وخاصة الزراعية منها على المجاهدين على اعتبارها من غنائم الحرب، إلا أنه لم يفعل ذلك وكان له رأي آخر وذلك قياسًا على الآية الكريمة التي تقول في سورة الأنفال – الآية 41:(وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). فكان رأي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (كيف بمن يأتي من المسلمين، فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت، وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي).
لنلاحظ هذه الجملة (كيف بمن يأتي من المسلمين)، أليس هذا هو نوع من التفكير المستقبلي الاستراتيجي، ويعني الاهتمام بالأجيال القادمة؟ لذلك تم احتساب هذه الجزئية من الغنائم من الخمس الخاصة لبيت مال المسلمين، ومن أجل المسلمين، ومن أجل الأجيال القادمة.
ولننظر إلى المنهج الإسلامي، في الاقتصاد، وفي البيئة، والقضايا الاجتماعية، فمنذ دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يركز على كل تلك الجوانب بطريقة أو بأخرى، فموضوع الإخاء بين المهاجرين والأنصار كانت أعظم فكرة لتوحيد الصف الداخلي، إذ إن هذا يؤثر في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والأمن الداخلي، ويمكن الحديث في هذا الموضوع في صفحات كثيرة.
وفي المحافظة على البيئة؛ فقد تحدثنا في هذا الموضوع مرارًا وتكرارًا، سواء في المحافظة على الحيوانات والأشجار أو الأرض، والمحافظة على الموارد من الإسراف والهدر، حتى إنه صلى الله عليه وسلم استنكر الإسراف حتى في ماء الوضوء.
وتعال –يا صاحبي– لننظر إلى الأهداف الـ17 التي حددتها الأمم المتحدة كأهداف للتنمية المستدامة، وهي لا فقر، لا جوع، التعليم وغيرها، سوف نجد أن للإسلام موقف واضح من كل هذه الأهداف حتى أنه أسهب في كثير منها ليس لمجرد بعض التعاليم وإنما كانت جزءا من منهج حياة يعيشها مجتمع المدينة المنورة.
وذات مرة عندما كنت في دورة أقدمها في واحدة من الدول الشقيقة في التنمية المستدامة، وعندما تحدثنا عن الهدف الثالث (الصحة الجيدة والرفاه)، أتذكر أني قلت: إن مقياس الصحة الجيدة هو تقليل عدد وفيات الأطفال وخاصة الذين يقل أعمارهم عن الخمس سنوات. اعترض أحدهم على هذا على اعتبار أن هذا تدخل في إرادة الله سبحانه وتعالى، فقلت: ما رأيك في الطب النبوي، الذي من خلاله دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم إلى البحث عن العلاج.
وهنا ليس هدفنا أن نربط بين التنمية المستدامة والإسلام، فالمنهج الإسلامي أكبر من ذلك بكثير، وكذلك فنحن لا نريد أن نلوي عنق الآيات والحقيقة حتى نربط هذا بتلك، وإنما كل الذي نريد توضيحه إننا نمتلك كل مقومات الحضارة القادمة، والريادة بجميع تفاصيلها، وعلى الرغم من ذلك فنحن نتخاذل، ونخجل أن نتحدث وأن نبرز كل ما لدينا من معرفة وعلم، وإن تحدثنا فلا نحاول أن نأتي بأمثلة من القرآن والسنة النبوية أو التاريخ الإسلامي، وإنما نحاول أن نستورد بضع كلمات من العالم الغربي (فلان) صاحب النظرية الفلانية، أو العالم الشرقي (فلان)، وهكذا، وكأن الحضارة لم تبدأ إلا من عند هؤلاء.
وهنا يقع عبء كبير على علماء الدين والعلم الشرعي، إذ إننا نرجو منهم أن يقرأوا ويتثقفوا في مثل هذه الأمور، فلا يكفي أن يتحدثوا مع الناس عن الطهور والوضوء والصيام، وإن كانت هذه الأمور مهمة، إلا إننا نحتاج بالإضافة إلى ذلك، إلى أمور حياتية كثيرة، فما موقف الإسلام من كل الأمور التي تحدث حولنا اليوم؟ نطالبهم بتغيير خطابهم حتى يتناسب مع معطيات هذا العصر.
نعتقد أنه آن الأوان أن نعيد التفكير في برامجنا ومناهجنا وكتبنا وأفكارنا وحياتنا وأن نربطها بتاريخنا الذي حاولوا طمسه وربطه بالدماء والحروب والجواري والسكر والعهر والفساد وما إلى ذلك، على الرغم من أن العصور العلمية الذهبية لم تبدأ إلا في العصور الإسلامية.
نعم، وقبل أن أختم دعوني أعود إلى كلام الدكتور المتحدث الذي ذكرته في بداية المقال: «أنتم لديكم الكثير من الأمور في دينكم، فدينكم رائع، ولكنكم قوم تجهلون ما لديكم، فذهبتم تبحثون وتنظرون إلى الحضارات الأخرى وخاصة الغربية، لتتخذوا منها ما تعتقدون أنه ناقص لديكم، فنصيحتي لكم: ابحثوا في دينكم وهذا أفضل لكم».
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك