في خضم صراع محتدم ومتصاعد بين الولايات المتحدة والصين، جاءت القمة الصينية مع دول آسيا الوسطى قبل أيام لتؤكد مزيدا من التفاهمات بين الصين وروسيا لمواجهة سياسة التقويض الأمريكي للبلدين، في مؤشر على زيادة حدة الاحتقان والمواجهة بين الأقطاب. ففي ظل انشغال روسيا بحرب مع الغرب، فجرتها الولايات المتحدة، وانغمست في تفاصيلها روسيا والقارة العجوز، ودفع فيها الثمن الأكبر الأوكرانيون، تستكمل أمريكا مساعيها لمحاصرة الصين واحتواء صعودها إلى صدارة المشهد الدولي.
وتبدو المساعي الأمريكية معهودة ومعلنة تجاه الصين، خصوصاً منذ إعلان الولايات المتحدة تحول استراتيجيتها الخارجية نحو آسيا لمواجهة الصعود الصيني، منذ عهد الرئيس باراك أوباما، إلا أن الجديد يكمن في الموقف الصيني، الذي أعلن التحدي رسميا، فإلى أين ستصل المواجهة بين القطبين في عالم يبدو فيه الصراع سيد الموقف؟
في مطلع هذا العام أكدت جريدة «فايننشال تايمز» في تقرير لها، دمج هياكل القوات العسكرية الأمريكية واليابانية وتوسيع نطاق العمليات العسكرية في قارة آسيا، استعداداً لصراع محتمل مع الصين. وأكد قائد مشاة البحرية الأمريكي، في ذات التقرير، أن بلاده وحلفاءها في القارة يقومون بمحاكاة الأسس التي مكنت الدول الغربية من دعم أوكرانيا في الحرب الحالية مع روسيا، لتجهيز مسرح الأحداث، والتي بدأت ما بين عامي 2014 و2015، وذلك بالاستعداد لسيناريوهات مشابهة محتملة في آسيا، كاستعادة الصين لتايوان. ومن الجدير ذكره أن اليابان أجرت مؤخراً مراجعة جذرية لسياساتها الدفاعية معتبرة أن النفوذ العسكري الصيني يشكل تحدياً استراتيجياً غير مسبوق لأمنها. ويعد هذا تطوراً مهماً ومتسارعاً في إطار سياسة الولايات المتحدة العدائية تجاه الصين، والتي بدأت قبل سنوات واشتدت ضراوتها بشكل تدريجي. ومروراً بتطور السياسة الأمريكية تجاه الصين، ووصف أوباما الصين بأنها مهدد للأمن الدولي، بينما اعتبر ترامب أنها ترفض الوضع الدولي القائم وتعمل على تغييره، في حين صنفها بايدن بالتهديد الأكبر، والتحدي المتسارع، الذي يجب محاربته.
وأكد البنتاجون العام الماضي، وفي خضم تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، أن الصين لا تزال تشكل التحدي الأول لأمريكا، لذلك سيواصل القيام بدوره في منطقة المحيطين الهادي والهندي، والعمل من كثب مع الحلفاء والشركاء للتصدي لهذا التحدي.
وفي مواجهة الصين عملياً، نسجت الولايات المتحدة تحالفات عسكرية واقتصادية لتحدي الصين وتحالفاتها في القارة الآسيوية، خصوصاً خلال الأعوام القليلة الماضية. فأعادت إحياء تحالف «كواد» العسكري الرباعي الذي يضم بالإضافة إليها أستراليا واليابان والهند، في عام 2020، إثر تأجج الخلاف الحدودي بين الصين والهند. كما شكلت تحالف أوكوس الثلاثي، الذي ضم بالإضافة إلى أمريكا كلا من بريطانيا وأستراليا في عام 2021، والذي زودت على أثره أستراليا، التي تعقدت علاقتها مع الصين خلال السنوات الأخيرة، بأسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، والذي أثار جدلاً كبيراً. كما أعلنت الولايات المتحدة مشروعا للتعاون المشترك مع عدد من الدول الحلفاء في قارة آسيا في مجالات أخرى غير عسكرية، والذي أعلن عنه بايدن في عام 2022 وضم 13 بلداً آسيوياً، منها الهند وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا، ضمن «الإطار الاقتصادي للازدهار».
بعد شهر واحد مما جاء في «فايننشال تايمز»، نشرت وزارة الخارجية الصينية خلال شهر شباط الماضي وثائق استراتيجية مهمة تعكس سياسة خارجية تسلط الضوء على الهيمنة الأمريكية ومخاطرها، في تطور خطير، إذ لم تلجأ الصين إلى تحديد موقفها صراحة من الولايات المتحدة من قبل، لكن يبدو أن تطورات الموقف الأمريكي العلني تجاه الصين، لم يترك لها مخرجاً.
تزداد خطورة تلك الوثائق عندما تقترن بزيادة الصين لإنفاقها العسكري بشكل ملحوظ خلال العامين الأخيرين. وساهمت إعادة انتخاب شي جين بينج قبل أشهر رئيساً للمرة الثالثة في حسم الاستراتيجية الصينية تجاه أمريكا صراحة، حيث ركز في كلمته في أعقاب انتخابه على ضرورة إعادة هيمنة الصين على آسيا، وفرض وجهة نظرها على الأنداد. لم تتحدث الصين عن الهيمنة من قبل، وطالما انتقدت الهيمنة الأمريكية. تبنت الصين خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي سياسة بناء أو تطوير الذات، ضمن المنظومة الاقتصادية الغربية مقرونة بحضور محسوب على المستوى الدولي. في نهاية ذلك العقد بدأت تجني الصين نتائج سياستها، في ظل ظهور مستوى من القوة الذي منحها ثقة أكبر بالنفس لخوض غمار سياسة خارجية أكثر جرأه، فتصاعد حضورها دولياً، لكن بشكل سلمي، بعيدا عن فرض الهيمنة على الدول الأخرى.
عند وصول الرئيس شي إلى الحكم قامت توجهاته على إعادة الاعتبار لمركزية الصين عالمياً، فأعلن إحياء مشروع «طريق الحرير»، وتوجه إلى سياسة خارجية جريئة ليس فقط في آسيا وإنما في بقية أطراف العالم. إلا أن سياسته تجاه آسيا على وجه الخصوص، قامت على تبني مبدأ تحمل دول القارة مسؤولية إدارة شؤونها، في إيماءة لرفض الصين تدخلات الولايات المتحدة فيها. بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ومبالغة الولايات المتحدة في معاداة الصين، توجهت سياسة بكين الخارجية للمواجهة، والتي انعكست في تلك الوثائق الرسمية التي صدرت عن وزارة خارجيتها.
قبل أيام عقدت قمة غير مسبوقة في الصين ضمت الدول الخمس لآسيا الوسطى، لأول مرة منذ نشأة العلاقات بينها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وكانت القمة في مدينة شيان التي تقع شمال الصين، وتعتبر الطرف الشرقي التاريخي لطريق الحرير، بما يرسل رسالة واضحة المعنى. أكد الرئيس الصيني خلال هذه القمة نية بلاده تعزيز الاتفاقيات التجارية والاستثمارية بين الجانبين، معتبراً أنها ترسم لحقبة علاقات جديدة. وتم البحث خلال هذه القمة مشروع توسيع خط أنابيب الغاز بين آسيا الوسطى والصين، وخط سكة حديد يربط بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان. وسجل النمو التجاري بين الصين والدول الخمس ارتفاعاً قدر بـ 22 في المائة خلال الربع الأول من العام الحالي مقارنة بالعام الماضي. وتجرأت دول آسيا في الفترة الأخيرة على اتخاذ خطوات غير معهودة في سياستها الخارجية باتجاه الصين، فأعربت كازاخستان عن استعدادها لإيجاد بدائل للطريق التقليدي لتصدير النفط، والذي يمر عبر ميناء نوفوروسيسك الروسي، في ظل حصار الغرب لروسيا.
لقد فتح النقاش من جديد حول إنشاء خط للسكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزباكستان، والذي كان مطروحاً منذ عقود رغم ارتفاع تكلفته، في ظل صعوبة النقل التجاري البري عبر القطارات مع روسيا، بعد تغير الظروف بحصار روسيا. وتدين دول آسيا الوسطى للصين بمليارات الدولارات، التي تنفقها الصين على مشاريع تجارية وتنموية فيها، فتركز الصين في سياستها الخارجية على القوة الناعمة عبر المشاريع الاقتصادية، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، وانتهاج السبل الدبلوماسية، وهو ما يجعل تدخلها أكثر قبولاً مقارنة بدول أخرى. وتعتبر دول آسيا الوسطى أساسية للصين في إطار حاجتها إلى الوصول إلى احتياجاتها من الغاز عبرها، حيث إنها ثاني مستهلك لمنتجات الطاقة في العالم وتفتقدها، وفي ظل تحقيق مشروعها «الحزام والطريق»، إذ يشكل موقع هذه الدول الخمس محطة مهمة في هذا المشروع. وكان من الصعب حدوث مثل هذه التطورات وبهذا الانفتاح بين الصين والدول الخمس قبل الحرب الروسية الأوكرانية لمكانتها لدى روسيا، التي تعتبرها حديقتها الخلفية. وبغض النظر إن كانت روسيا قد سمحت لهذا التمدد الصيني في حديقتها الخلفية نتيجة عدم الرغبة في خسارة الصين الحليف الاستراتيجي لها في هذه الظروف العسيرة، أم كانت لا تمانع في السماح للصين بالحضور لمنع تمدد أمريكا فيها، في ظل محاولات الأخيرة لاستعادة الثقة لدى دول تلك المنطقة مؤخراً، والتي انعكست في زيارة وزير الخارجية الأمريكي للمنطقة مؤخراً، فتبدو النتيجة واحدة، وهو توسع الوجود الصيني فيها.
من المعطيات السابقة يمكن تفسير العديد من التطورات السياسية وحدود التنافس أو الصراع بين أمريكا والصين ليس فقط في آسيا بل أيضاً في الشرق الأوسط وأفريقيا. وتهتم أمريكا بإثارة الفوضى في منطقة آسيا الوسطى، والمعطلة لأي مشاريع روسية أو صينية، وقد يكون انسحابها من أفغانستان، دون إرساء لأي أسس للاستقرار فيها، من بين مخططات بث تلك الفوضى.
كما يعد اهتمام أمريكا بـتايوان ودفاعها عنها سياسياً، والكشف مؤخراً عن وجود عسكري لقواتها في الجزيرة لتدريب الجيش التايواني ضد أي هجوم محتمل، موقفا غير بريء، خصوصاً مع إدراك أهمية تايوان الاستراتيجية بالنسبة إلى الصين. فيتعلق الصراع بين الصين وأمريكا في بحر الصين الجنوبي، بمضيق تايوان، الذي يفصل بين تايوان والصين، ويربط بحر الصين الجنوبي بالمحيط الهادي، ويعتبر أحد نقاط التحكم في بحر الصين الجنوبي، الذي يقع ضمن نطاق الصين، ويمر من خلاله ثلث التجارة العالمية. كما أن تحول الولايات المتحدة لاهتمامها تجاه الشرق الأوسط، بعد أن أعلنت تحول اهتمامها عنها باتجاه آسيا، يعود إلى التغلغل الصيني الاقتصادي في قلب المنطقة، فهو تحول لمجابهة الصين ونفوذها، ومحاولة الاحتواء، وهو الأمر الذي يتكرر بوضوح في التوجه الأمريكي الحديث بالاهتمام بالقارة السمراء، وقبلها دول آسيا الوسطى.
{ كاتبة وباحثة من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك