أوضحت اتجاهات أسعار النفط في الآونة الأخيرة، أن قرارات «أوبك بلس»، بشأن خفض الإنتاج ابتداءً من مايو حتى نهاية 2023 كانت في محلها، وأنه لو استجابت للمطالب الأمريكية بزيادة الإنتاج لكانت الأسعار حاليًا أكثر انخفاضًا.
وفي 5 مايو 2023 كان سعر برميل النفط يقترب من مستوى 68.75 دولارا، مع اتجاه رئيسي هابط إلى مستويات تالية ما بين 64.19 دولارا، و66.10 دولارا، وقد استمر هذا الاتجاه النزولي للأسعار من الربع الأخير لعام 2022. وتبقى المراهنة في عام 2023 هي على اتجاهات نمو الاقتصادين الصيني والهندي، بينما أدت السياسات النقدية المتشددة في الولايات المتحدة وأوروبا لمكافحة التضخم إلى تباطؤ اقتصاداتها؛ لكن حالة عدم اليقين بشأن الصين والهند قد سيطرت على الأسواق، والإشارات المتفائلة هي التي تحدث تقلبات في الأجل القصير. وتتوقع «أوبك»، أن يزيد الطلب الصناعي على البنزين والديزل زيادة طفيفة في عام 2023، مقارنة بالعام السابق بنسبة 2.3% أي ما يعادل 2.25 مليون برميل يوميًا.
وبالنسبة إلى العرض، فإنه من المتوقع أن يكون نمو إنتاج «أوبك»، قليلاً في 2023، ولا يزيد على نصف مليون برميل يوميًا، فيما توقعت «إدارة معلومات الطاقة الأمريكية»، زيادة إنتاج النفط العالمي بنسبة 1% أي ما يعادل 1.1 مليون برميل يوميًا في 2023 مقارنة بالعام السابق، وتأتي معظم الزيادات من الولايات المتحدة، بينما توقعت انخفاض إنتاج روسيا من 10.9 ملايين برميل يوميًا إلى 9.5 ملايين برميل يوميًا، في مقابل نمو الإنتاج الأمريكي بنسبة 5%؛ أي ما يعادل مليون برميل يوميًا.
وفيما كان الخبراء قد توقعوا أن الزيادات الطفيفة في العرض لن ترقى إلى مستوى الطلب -ما يشير إلى أن الأسعار سترتفع- فقد كان انخفاض معدل نمو الاقتصاد العالمي قد انعكس على أسعار النفط. ويزداد هذا التأثير إذا ما تحول تباطؤ نمو الاقتصاد الأمريكي إلى ركود، وتحول ما يبدو أنه ركود جزئي في أوروبا إلى ركود طويل الأمد.
وفي حين أن أسعار النفط شديدة الحساسية للتطورات السياسية، كالحرب في أوكرانيا، ومن ثمّ، المخاوف بشأن إمدادات وأمن الطاقة؛ إلا أنها ترتبط إيجابيًا أيضًا بأسواق الأسهم، فارتفاع أسعار الأسهم يشير إلى رواج اقتصادي، وبالتالي، زيادة في الطلب على النفط، وانخفاضها يدل على تباطؤ اقتصادي، ومن ثم انخفاض الطلب على النفط. وتشير مؤشرات «استاندارد أند بورز»، و«ناسداك» -وهي مؤشرات لأسواق الأسهم- إلى أن إقبال مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة للحد من ارتفاعات معدل التضخم، قد زاد من تكاليف الاقتراض للشركات، وإحجامها عن الاستثمار وانخفاض النمو الاقتصادي، ما زاد من الضغط الهبوطي على الأسهم، ومن ثم عزوف الشركات المصدرة لهذه الأسهم عن شراء النفط.
كما أن ارتباط أسعار النفط بأسواق الأسهم الأمريكية، دل عليه هبوط أسعاره في مارس 2023، إلى أدنى مستوياته منذ ديسمبر 2021د، على وقع مخاوف في الأسواق العالمية من تداعيات أزمة انهيار بنوك أمريكية، حينها تراجعت العقود الآجلة لخام برنت بنحو 4.1% إلى 74.85 دولارا للبرميل، وانخفض خام غرب تكساس بنسبة 4% إلى 68.47 دولارا للبرميل. وكان هذا رغم التوقعات الإيجابية لحركة التداول، التي تُظهر أن النشاط الاقتصادي الصيني قد انتعش في أوائل 2023، بعد إنهاء الإجراءات الصارمة لمواجهة كوفيد- 19، فانهيار بنك «سيلكون فالي»، تبعته مخاوف متعلقة بالنظام المصرفي والسيولة في السوق، وانتقلت هذه المخاوف إلى أوروبا، ما ينعكس أثره على السلع والأصول مقارنة بالملاذات الآمنة كالدولار والذهب.
وتزامنًا مع الأزمة المصرفية الأمريكية، كعامل مؤثر في انخفاض أسعار النفط، يأتي ارتفاع مخزون النفط الأمريكي، عاملاً آخر في هذا الانخفاض. وأظهرت بيانات أصدرها «معهد البترول الأمريكي»، ارتفاع مخزونات الخام في الولايات المتحدة، بنحو 3.3 ملايين برميل في الأسبوع المنتهي في 17 مارس مخالفًا توقعات المحللين بتراجع المخزونات بنحو 1.6 مليون برميل، وهذا المخزون المرتفع علامة لضعف الطلب على النفط الخام، فيما ضاعف من تأثير هذا العامل إقبال «الفيدرالي الأمريكي»، على رفع أسعار الفائدة مجددًا، ومن ثم إضعاف النمو الاقتصادي والطلب على النفط.
وبعيدًا عن أساسيات السوق من عرض وطلب، ودورها في تحديد الأسعار؛ فإن للمضاربة شأنا كبيرا في هذه الأسعار. ويظهر هذا جليًا في العقود الآجلة وأسواق المستقبليات، حيث إن كمية التعاملات عليها كميات ضخمة، وتمثل أحيانًا نحو 3 أضعاف الإنتاج اليومي الفعلي، وأصبحت عاملاً فاعلاً في السوق، وتنوعت الجهات المشاركة فيها، وغدت تشمل شركات ومصارف ومؤسسات مالية وأفرادا، وتكونت لها صناديق للمضاربة، تنشط في أسواق النفط الآجلة، وما يميز هذه العقود الآجلة أنها تعمل على سلعة تباع وتشترى في تاريخ مستقبلي محدد سلفًا ولا تمثل أداة ملكية كالأسهم.
وتقوم عمليات المضاربة في النفط على أساس التوقعات المستقبلية للأسعار، التي ترتكز على مجموعة من التغيرات الاقتصادية والسياسية والمناخية المقبلة. وحين يتجه المضاربون إلى احتمال ارتفاع الأسعار يبدأون في الشراء فترتفع الأسعار، وفيما يتجهون إلى احتمال انخفاضها يبدأون في البيع؛ فتنخفض الأسعار بصورة أكبر. وتعد السوق الورقية أو المستقبلية من أكبر الأسواق نشاطًا في العالم، وتحولت إلى الأساس الذي يتم عن طريقه تسعير النفط، كما تعمل هذه السوق على مدار الساعة.
ومع انخفاض الأسعار وكميات الإنتاج جاءت توقعات «صندوق النقد الدولي»، في مايو تشير إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمملكة البحرين يبلغ 3% في 2023، والكويت 0.9%، وسلطنة عُمان 1.7%، وقطر 2.4% ، والسعودية 3.1%، والإمارات 3.5%، وإجمالي مجلس التعاون الخليجي 2.9%. ويعكس خفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس لعام 2023، المراجعة الهبوطية الحادة لتوقعات الناتج المحلي الإجمالي النفطي من نسبة 3.6%، إلى نسبة 1%، في مقابل ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بمعدل نمو أسرع بنسبة 4.2%، في مقابل التوقعات السابقة 3.7%. وكان الناتج المحلي الإجمالي النفطي لدول مجلس التعاون، قد شهد توسعًا بلغ 12.4% في عام 2022، فيما أعلنت «أوبك بلس»، خططًا لخفض الإنتاج، بمقدار 3.66 ملايين برميل يوميًا، أي ما يعادل 3.7% من العرض العالمي. ويبلغ إجمالي إنتاج النفط لدول المجلس 18.1 مليون برميل يوميًا في 2023.
علاوة على ذلك، توقع «الصندوق»، أن تحقق السعودية، عجزًا ماليًا قدره 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023، مقارنة بتوقعات سابقة بفائض 3.9%، وأن يستمر هذا العجز في 2024 بنسبة 1.2%، حيث تسجل قطر فائضا بنسبة 14.7% في 2023 و11.1% في 2024، والكويت فائضا بنسبة 7% في 2023، وبنسبة 4.2% في 2024.
وتأتي هذه التوقعات في ظل توقع تأثيرات خفض الإنتاج والأسعار، بينما كان انتعاش 2022 قد أسفر عن انتعاش سوق المشاريع دول مجلس التعاون، وظهر في عدد المشاريع الممنوحة خلال الربع الأول لعام 2023، حيث زادت القيمة الإجمالية لعقود المشاريع الممنوحة بنسبة 54.7% على أساس سنوي لتصل إلى 29.9 مليار دولار، مقارنة بـ19.3 مليار دولار في السنة السابقة، ويمكن أن تصل قيمة مشاريع دول المجلس إلى إجمالي 110 مليارات دولار في عام 2023، إذا ما عاودت أسعار النفط الخام الارتفاع.
ونتيجة لذلك، ومع ارتفاع النفقات العامة؛ قدر صندوق النقد الدولي، أن أسعار تعادل سعر النفط لدول مجلس التعاون الخليجي لعام 2023، سوف يبلغ في السعودية، سعر التعادل 78 دولارا، والكويت، 80.4 دولارا، والإمارات 65.8 دولارا، وهو ما يعني أن هبوط الأسعار دون هذا السعر يتسبب في عجز مالي، باعتبار أن إيرادات النفط هي الممول الرئيسي للميزانية العامة.
وبحسب بيانات أولية صادرة عن الهيئة العامة للإحصاء السعودية، فقط تباطأ نمو الاقتصاد السعودي في الربع الأول من عام 2023 على أساس سنوي، بعد تسجيل القطاع النفطي أدنى معدل نمو فيما يقرب من عامين محققًا 1.3% فقط، متأثرًا بتراجع أسعار النفط من مستويات فوق 100 دولار للبرميل بنهاية الربع الأول لعام 2022، لتصل بنهاية مارس 2023 إلى مستوى 80 دولارا للبرميل لخام برنت، وكذلك خفض تحالف «أوبك بلس»، الذي تقوده السعودية إنتاج النفط بواقع مليوني برميل يوميًا، اعتبارًا من أول نوفمبر الماضي، قبل أن يعمق التحالف هذا الخفض اعتبارًا من أول مايو.
ورغم أن انخفاض أسعار النفط، هو عامل مثبط للاستثمارات النفطية، إلا أن هيمنة النفط على أسواق الطاقة الآن وفي الأمد المنظور، يجعل هذا الانخفاض من تقلبات الأجل القصير، وأن الاتجاه المنطقي للأسعار هو اتجاه الصعود، ولهذا فإن وكالة «موديز للتصنيف الائتماني»، قد قدرت نمو الاستثمارات في عمليات التنقيب والإنتاج النفطي إلى 470 مليار دولار في 2023، بنسبة نمو 12.7%، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا. وكانت هذه الاستثمارات قد بلغت 417 مليار دولار في 2022، وقد تصل الاستثمارات في قطاع النفط والغاز في كندا في 2023، إلى أكثر من 29 مليار دولار، فيما أعلنت «مؤسسة البترول الكويتية»، خططا لاستثمار 80 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة بما يتماشى مع خطط المؤسسة طويلة الأجل.
وفي واقع الأمر، كان معظم توجه الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة إلى الشرق الأوسط وإفريقيا للقطاع النفطي. وفي الأخيرة تسارعت وتيرة تنفيذ مشروعات النفط والغاز، ما دفع حكومات القارة إلى رفع الإنفاق الاستثماري ذي الصلة بأنشطة الاستكشاف والتنقيب. وشرعت كيانات من خارج صناعة النفط في توجيه مواردها صوب هذا القطاع المحوري في إفريقيا، الذي يُظهر آفاقًا واعدة، فضخ «بنك الصادرات والواردات الإفريقي»، و«مؤسسة التمويل الإفريقية»، استثمارات بنحو 16 مليار دولار في مشروعات النفط والغاز. وفي مؤتمر «اتحاد المصافي والتوزيع الإفريقي»، -الذي عقد مؤخرًا في جنوب إفريقيا- قدرت استثمارات مشروعات النفط والغاز بـ190 مليار دولار، وهناك 70 مشروعا في هذا المجال تدخل الإنتاج بحلول 2025، وتضيف 2.3 مليون برميل يوميًا.
على العموم، إن قراءة اتجاهات أسعار النفط في الآونة الأخيرة، ابتداءً من الربع الرابع للعام الماضي 2022، تبيّن أن ما حدث من انخفاض في هذه الأسعار في هذه الفترة، ما هو إلا عرض معتاد من أعراض سوق النفط، الذي يتسم بالتذبذب انخفاضًا وارتفاعًا؛ ولكن يبقى الاتجاه طويل الأمد هو الاتجاه الصعودي في ظل عدم وجود بديل كاف الآن وفي المستقبل القريب يستطيع أن يحل محل النفط كالمصدر الرئيسي للطاقة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك