على الرغم من أن المملكة المتحدة، لم تعد في مقدمة القوى العظمى عالميًا من حيث عناصر القوة العسكرية والنفوذ الجيوسياسي كما كان، فإن كفاءتها في إبراز قوتها الناعمة في جميع أنحاء العالم، وقدرتها على بسط نفوذها، وقيمها المشتركة، وإرثها التاريخي والثقافي، وأنظمة سياسية أخرى؛ كانت قادرة على جعل الآخرين يريدون إنجاز ما تريد، وكما وصفها الكاتب الأمريكي جوزيف ناي، فإنه يتم تصنيفها باستمرار على أنها الأفضل عالميًا.
وفي مؤشر براند فاينانس للقوة الناعمة لعام 2023، احتلت بريطانيا، المرتبة الثانية عالميًا، بعد الولايات المتحدة، فيما اعتبرت لندن، المدينة الأولى عالميًا في عرض قوتها الناعمة، قبل نيويورك، وباريس، ويرجع ذلك إلى سمعتها الراسخة في مستوى التميز الأكاديمي، جنبًا إلى جنب مع وجود العديد من المؤسسات الثقافية الرائدة.
ومع الاعتراف بالدور الذي يمكن أن يؤديه نشر القوة الناعمة في تلبية الطموحات الاقتصادية والسياسية لدولة ما، في السنوات العشرين الماضية؛ فقد أقر المراقبون بالمزايا القيمة للسياسة الخارجية التي مارستها المملكة المتحدة، من خلال دلائل قوتها الناعمة القوية. وفي تحديثها للمراجعة المتكاملة لملف السياسة الخارجية والدفاعية في مارس 2023، أوضحت الحكومة أنها تسعى إلى تعظيم نشر قوتها الناعمة، لخدمة المصالح البريطانية، وكذلك بذل المزيد من الجهد لتسخير تلك القوة لإدارة دفة نهج السياسة الخارجية الأوسع نطاقًا، وخاصة فيما يتعلق بعلاقات المملكة المتحدة المعقدة مع دول الكومنولث.
وفي واقع الأمر، لا يوجد تجسيد لصورة القوة الناعمة البريطانية أكثر من العائلة المالكة. وعلى الرغم من تقليص حجم سلطاتها الدستورية، منذ فترة طويلة، إلا أن الاحتفالات الملكية الفريدة على مر العصور، تجتذب ملايين السائحين إلى البلاد سنويًا من جميع الأقطار. ووفقًا لنتائج مؤشر براند فاينانس، فإن هذا الأمر كفيل بجلب ما يقرب من 2.5 مليار جنيه إسترليني لاقتصاد المملكة سنويًا، لما تتمير به الملكية البريطانية من اعتراف دولي قد لا توصف به أي مؤسسة أخرى بنفس القدر.
ومع ممارسة الملكة إليزابيث الثانية، مهامها طيلة أكثر من 70 عامًا، فليس غريبًا أن وفاتها في سبتمبر2022، قد أثارت زخما، واسع النطاق من قبل كافة الدول، بما في ذلك خصوم بريطانيا الجيوسياسيين.
وفي حين تم تتويج الملك تشارلز الثالث، رسميًا، في أوائل مايو 2023؛ فإن هذا الحدث وفقًا لـ«مارك لاندلر»، في صحيفة نيويورك تايمز، يمثل مشهدًا ملكيًا، لا يمكن لأي طرف غير بريطانيا وحدها إظهاره بتلك الدقة؛ حيث شارك في موكبه 19 فرقة عسكرية، و4 آلاف جندي انتشروا لمسافة ميل كامل وسط لندن، بحضور 2200 من المسؤولين الدوليين البارزين، وهو الأمر الذي يظل دليلاً مهمًا، على تقدم مستوى قوة بريطانيا الناعمة عالميا.
ومع ذلك، هناك بعض الاختلافات المهمة بين الملك الحالي والملكة الراحلة. وبينما اشتهرت الأخيرة، بإحجامها عن الخوض في الشؤون السياسية المحلية أو الدولية، حيث أشارت غابي هينسليف، في صحيفة الجارديان، إلى أنها كانت لا تدلو بدلوها في التطورات السياسية البريطانية في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فقد أوضح بيتر كيلنر، من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أن فترة حكم الملك تشارلز الثالث، قد تنطوي على بوادر مفاجئة، لمشاركة أكثر نشاطًا له في الشؤون الدولية. ومن المرجح أن يتخذ هذا النشاط اتجاها نحو تعزيز شغف الملك الواضح بحماية البيئة. وكتب كيلنر، أن تولي الملك تشارلز للعرش والتأثيرات الذي سيجلبها هذا الأمر، يوفر له فرصة أكبر للدفع بالجهود العالمية لمكافحة التغيرات المناخية. وفي أول زيارة خارجية له إلى ألمانيا قبل تتويجه، كرر تعليقاته السابقة حول الحاجة الملحة لخفض انبعاثات الكربون عالميًا.
وليس غريبًا أن تكون علاقة العائلة المالكة مع دول الكومنولث، أيضًا من بين أهم القضايا المطروحة حاليًا. وباعتباره ملكًا مُنصبًا على 14 دولة أخرى، بالإضافة إلى بريطانيا ذاتها-بما في ذلك كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، ومجموعة من جزر الكاريبي، مثل جامايكا، وجزر الباهاما، وجرينادا، وسانت كيتس، ونيفيس، فإن هناك تساؤل حول ما إذا كانت هذه الدول ستستمر في الحفاظ على وضعها الحالي، أم ستسعى للانفصال عنها.
وعلى الرغم من أن أسباب أية تغييرات محتملة في هذا الصدد، ليست من مسؤولية الملك الجديد، بأي حال من الأحوال؛ حيث إن الأمر يتعلق بآثار ماضية طويلة المدى للإمبراطورية البريطانية؛ فإنه كما كان الحال تمامًا خلال فترة حكم الملكة إليزابيث الثانية؛ سيسعى الملك تشارلز، للحفاظ على العلاقات السياسية التاريخية لبريطانيا مع الدول كافة، بما في ذلك دول الكومنولث.
ومع ذلك، تبدو هذه المهمة في حد ذاتها تحديًا. وأشارت راشيل بانيت، في صحيفة واشنطن بوست، إلى أن العديد من أعضاء دول الكومنولث يعيدون الآن النظر في علاقتهم بالتاج البريطاني، وسط الحسابات المحبطة والصادمة أحيانًا، التي خلفها إرث الإمبراطورية البريطانية. وفي نوفمبر2021، أصبحت بربادوس أحدث جمهورية، على الرغم من أن تلك الجزيرة لا تزال جزءًا من الكومنولث. ومنذ ذلك الحين، انتهجت حكومة أنتيغوا وباربودا، زمام المبادرة، والتي أطلقت جدولًا زمنيًا، لإجراء استفتاء على مستقبل نظامها الملكي في غضون السنوات الثلاثة المقبلة.
وبدوره، أكد رئيس وزراء جامايكا أندرو هولنيس، في وقت سابق من عام 2023، أن الوقت قد حان لتصبح الجزيرة جمهورية. وبعيدا عن منطقة البحر الكاريبي، اكتسبت الحركات الجمهورية زخمًا، في كل من أستراليا، ونيوزيلندا، وكندا؛ حيث إنه في السابق اعترف رئيس الوزراء الأسترالي الحالي ألبانيز، بأنه جمهوري حتى النخاع، كما أصر المفوض السامي الأسترالي لدى المملكة المتحدة ستيفن سميث، على أن الانتقال إلى نظام سياسي جمهوري أمر لا مفر منه.
كما يجب أيضًا ملاحظة أن الملك تشارلز الثالث، مناصر للقضايا البيئية في دول الكومنولث، وهو ما كان له بالغ الأثر على بعض دول الجنوب العالمي، التي هي أيضًا أعضاء في هذا التجمع المكون من 54 دولة. وأشارت بانيت، إلى حضور الأمير تشارلز -في السابق- العديد من اجتماعات الكومنولث في غياب الملكة، فيما تركزت اهتماماته الأخرى، في قضية التنمية المستدامة، وتمكين الشباب، وهو ما قد يجعله شخصية فريدة، بالنسبة إلى بلدان العالم، وبالتالي ضمان مساهمة العائلة المالكة في إظهار ملامح القوة الناعمة البريطانية.
علاوة على ذلك، تمت ملاحظة أن شخصية النظام الملكي في عهد الملك الحالي، قد خضعت لعملية تغيير جذرية، وخاصة مع إشارة لاندلر، إلى أن التتويج أظهر جهودًا واضحة، لجعل طقوس التتويج، إبان القرون الوسطى أكثر شمولية وديمقراطية؛ حيث لم يتصدر رجال الدين الأنجليكانيون الموكب الذي يدخل كنيسة وستمنستر صباح التتويج، بل تصدره ممثلون من طوائف؛ اليهود، والمسلمين، والسيخ، والبوذيين والهندوس.
وفي مواجهة هذه الأمثلة، من الممكن أن تتأثر إمكانات القوة الناعمة البريطانية خارجيًا، من خلال تقليص عدد الدول التي تحتفظ بالتاج البريطاني. وأشار كيلنر، إلى أنه -كما كان الحال خلال السنوات الأخيرة من حكم الملكة إليزابيث الثانية- قد يشهد الملك تشارلز الثالث حتى الآن انسحاب دول، مثل اسكتلندا، وأيرلندا الشمالية من المملكة المتحدة خلال استفتاءات ديمقراطية، وهو سيناريو من شأنه أن يترك مستقبل النظام الملكي في هذه البلدان مطروحًا للنقاش. ومن المهم أيضًا الاعتراف بتراجع شعبية النظام الملكي في بريطانيا؛ واستشهد لاندلر، بأن حفل التتويج رافقه تصريحات منفرة من المتظاهرين المناهضين للملكية البريطانية في لندن.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الأحداث قد فشلت في عرقلة الاحتفال بالتتويج، إلا أن هناك اتجاهًا طويل الأمد، للتخلي عن الملكية. ووفقًا لاستطلاع أجراه المركز الوطني للبحوث الاجتماعية، عام 2023، يعتقد 29% فقط من البريطانيين، أن الملكية أمر مهم للغاية، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 38% عن العام السابق. وقد يتضح منه أيضًا انخفاض الدعم والتأييد للعائلة المالكة بشكل خاص في الفئات العمرية الأصغر، حيث يرى 12% فقط من مواطني المملكة المتحدة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا أنها ذات أهمية بالغة للحفاظ على مستقبل وكيان الأمة.
وبتحليل هذه النتائج، أشارت أميليا هيل، في صحيفة الجارديان، إلى أنها تعكس اتجاهًا طويل الأمد لتراجع الدعم الموجه إلى النظام الملكي. وأوضح جاي جودوين، الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للبحوث الاجتماعية، أن التحدي الأساسي للعائلة المالكة محليًا، سيكون تعزيز أهميتها وجاذبيتها لدى جيل الشباب للحفاظ على دعمه داخل بريطانيا على النحو الواجب.
وتثير علامات الاستفهام حول مستقبل النظام الملكي البريطاني، قلقًا أوسع، حول علاقته بشكل عام مع دول العالم. ومع استشهاد لاندلر، بكيف بدا الملك تشارلز وكأنه يشعر بثقل التاج، فقد زاد التآكل في حجم ونطاق سلطة الملكية البريطانية، سواء من خلال الإصلاح الديمقراطي، وتقليص صلاحيتها، أو قرار الحكومات الوطنية بفصل نفسها عن نظامها الحالي، لتصبح جمهورية، وهو ما سيؤدي حتما إلى حدوث تغيير كبير في علاقة العائلة المالكة السياسية مع بقية العالم.
على العموم، فإنه مع كل هذه التحديات، يجب الإشارة إلى كيفية تجاوز النظام الملكي البريطاني للعديد من العواصف خلال تاريخه الذي يزيد على الألف عام. وعلى وجه الخصوص، أشار كيلنر، إلى أن تمتع هذا النظام بـ «البراجماتية» المستمرة، والتغييرات التدريجية، خلال القرون الماضية، أثبت نجاحه في ضمان تماسكه على المدى الطويل، علاوة على ذلك، فإن الطبيعة المرنة لعلاقة مواطني المملكة المتحدة بالعائلة المالكة، تظل عنصرا جوهريا، يقدم نموذجا فريدا، لقوة الدولة الناعمة في علاقاتها الخارجية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك