تزايدت دعوات الخبراء والسياسيين والعديد من مراكز البحوث الاقتصادية حول العالم في الآونة الأخيرة؛ إلى إنهاء هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، خاصة بعد أن ارتفعت قيمته أمام العملات الأخرى، وازدادت قدرته على التحكم في التعاملات التجارية الدولية والاحتياطيات النقدية، وفي ظل استياء بعض الدول من استخدامه كسلاح سياسي، بدلا من كونه عملة تجارية عالمية.
وبشكل خاص، برزت إمكانية ظهور نظام نقدي عالمي متعدد العملات، وتسوية المدفوعات الدولية بغير الدولار، بعد اندلاع «الحرب الأوكرانية»، وفرض عقوبات مشددة على «موسكو»، طالت تعاملاتها بالدولار، إلى جانب ما اتبعه «الفيدرالي الأمريكي»، من سياسة نقدية متشددة لمكافحة التضخم، بالرفع المستمر لأسعار الفائدة؛ ما أعطاه قوة كبيرة مقابل العملات الأخرى، وجعل المستثمرين يحولون استثماراتهم إلى أدوات الدين الأمريكية، ومن ثمّ، حدوث أزمة شح دولاري لدى كثير من دول العالم، خاصة النامية، وتكبيل قدرتها على الاستيراد، فيما فاقم من أزمات الدول التي يقود التصدير نموها الاقتصادي، وعلى رأسها الصين والهند والبرازيل؛ ما جعلها تطرح إمكانية تسوية المدفوعات بعملاتها، ليبرز هنا التساؤل.. هل تنجح هذه الدعوات في تقويض سيطرة الدولار، وكسر هيمنته على الاقتصاد العالمي، ونظام النقد الدولي، ويتجه العالم إلى نظام متعدد العملات.
ومن المعلوم، أن قوة العملة لأي دولة تعكس قوة اقتصادها، ولما كان الاقتصاد الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قد أصبح أقوى اقتصاد في العالم؛ فإن «اتفاقات برتون وودز«، عام 1944، التي أنشأت «صندوق النقد الدولي»، و«البنك الدولي للإنشاء والتعمير»، قد ربطت عملات العالم بالدولار بسعر ثابت، وحددت لكل عملة مجال مناورة «صعودًا وهبوطًا»، في حدود 2%، ثمّ ربطت سعر الدولار بالذهب عند 35 دولارا للأوقية، وظل هذا النظام قائمًا حتى ألغى الرئيس الأمريكي «نيكسون»، في 15 أغسطس 1971 الارتباط بين الدولار والذهب، وترك العملة الأمريكية لسعر السوق، لينهار بذلك نظام «برتون وودز»، ويصبح للدول مطلق الحرية في تقييم عملاتها مقارنة بعملات بلد آخر، أو سلة عملات.
ومع ذلك، فإن قوة الاقتصاد الأمريكي الكبيرة – حينئذ – جعلت الدول تربط عملتها، سواء بسعر ثابت أو معوم بالدولار، ليكون الأخير هو العملة الوسيطة في تقييم عملتها بعملات الدول الأخرى. ومنذ عام 1944 وحتى عام 1971، ظل الدولار ومعه الذهب يهيمنان على احتياطات الدول، وحتى بعد فك الارتباط أصبح الدولار هو المكون الرئيسي لاحتياطيات الدول.
ومع اطراد النمو الاقتصادي للعديد من دول العالم، وسعيها لقبول عملاتها في تسوية المدفوعات الدولية؛ أخذت كثير من دول العالم في تنويع احتياطاتها، حسب خريطة تعاملاتها التجارية. وفي تقرير «صندوق النقد الدولي» في مايو 2021، تراجع نصيب الاحتياطيات الدولارية لدى البنوك المركزية إلى 59%، وهو أدنى مستوى على مدى 25 عامًا؛ ما يعكس «جزئيًا»، تراجع دور الدولار في الاقتصاد العالمي، في مواجهة منافسة العملات الأخرى التي تستخدمها البنوك المركزية في إجراء المعاملات الدولية. وفي نهاية عام 2022 استمر هبوط نسبته في احتياطات النقد الأجنبي العالمية، حيث بلغت 58.3%، وهو أدنى مستوى منذ 1995، فيما بلغت حصة اليورو 20.47%، واليوان الصيني 2.69% (أصبح عملة احتياطي دولية معترف بها من صندوق النقد الدولي في 2016)، والين الياباني 5.51%، والدولار الكندي 2.38%، وكل من الجنيه الإسترليني والدولار الأسترالي 1.96%.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات، فقد ظل حجم الدين العالمي المقوم بالدولار، يمثل نحو 50%، كما أن نحو 40% من المعاملات عبر «نظام سويفت» للمعاملات المالية الدولية، تتم من خلاله (وسويفت، يعد شريانا ماليا عالميا، يسمح بالانتقال السلس والسريع عبر الحدود عبر جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، ونشأ عام 1973 ومقره في بلجيكا، ويربط 11 ألف بنك ومؤسسة في أكثر من 200 دولة).
علاوة على ذلك، فقد أسهم أيضًا الانخفاض الكبير لنسبة الدولار في الاحتياطيات الدولية، توافق مجموعة «بريكس» – التي تضم الصين، والهند، وروسيا، والبرازيل، وجنوب إفريقيا – على تسوية المدفوعات بينها بعملاتها. وفي سبتمبر 2022، أعلنت مجموعة «غاز بروم»، الروسية، أن الصين ستبدأ سداد مبيعات الغاز الروسي بالروبل واليوان بدلاً من الدولار. وفي العام الماضي، تجاوز حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا، 200 مليار دولار، فيما تمثل «بريكس» 31.5% من حجم الاقتصاد العالمي، و42% من سكان العالم؛ لكن ناتجها المحلي الإجمالي مجتمعة يوازي ناتج الولايات المتحدة، وتسهم بنحو 18% من التجارة العالمية للسلع، و25% من الاستثمار الأجنبي، وقد تشهد الفترة المقبلة انضمام دول أخرى إليها من بينها مصر والجزائر والسعودية والإمارات.
وفي ضوء هذه الديناميكيات، أعلن الرئيس الروسي «فيلاديمير بوتين»، في يونيو2022، خلال منتدى أعمال «بريكس»، أنه يجري العمل على إنشاء عملة احتياطية دولية على أساس سلة من عملات المجموعة، لتكون هذه العملة الجديدة بديلة للدولار في تسوية المعاملات البينية. ومع ذلك، فإن تعاملات دول المجموعة مع غيرها تتم بالدولار، كما أن ما لديها من احتياطي كبير، واستثمارات دولارية في أذون الخزانة الأمريكية بالدولار، وما لها وما عليها من ديون مقومة بنفس العملة، فيما تبقى مرجعيته أيضا في تقييم عملات هذه الدول.
وكانت التجربة السابقة، هي «اليورو» – الذي نشأ عام 1999 – إلا أنه إلى الآن يمثل فقط 20% من نسب الاحتياطيات النقدية الدولية، ليظل الدولار مهيمنًا؛ لكن مع ذلك، فإن «بريكس»، تسعى إلى رفع المعاملات التجارية فيما بينها، بحيث لا يمثل شح الدولار عائقًا أمامها. وفي الإطار ذاته، أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي «ألكسندر نوفاك» في مارس 2023، أن «موسكو»، تعتزم مستقبلا التخلي عن «اليورو»، و«الدولار»، لصالح «اليوان»، و«الروبل»، وقبول العملات الوطنية في تعاملات موارد الطاقة، وعليه، اعتمد «البنك المركزي»، الروسي 43 عملة يحدد أسعارها يوميًا، ويتم التبادل معها.
وفي جزء من هذه التحول، أعلنت «الهند»، أيضًا قبولها الدفع بالروبية الهندية في التعاملات التجارية مع الدول التي تعاني شحًا دولاريا. وفيما تحاول «نيودلهي»، تدويل عملتها، وتقليل الطلب على الدولار؛ فإنه بعد فترة وجيزة، تراكمت الروبية في البنوك الروسية، ما جعل «موسكو»، ترفض التصدير للهند بهذه العملة، مع وجود فجوة كبيرة في الميزان التجاري لصالح روسيا، رفعت فائض الروبية في المعاملات البينية، والذي بلغ بالفعل ما يزيد على 40 مليار دولار؛ ما يعني أنه سيكون هناك سقف للتعامل بالعملات المحلية مرتبط بحجم التجارة بين البلدين المتعاملين.
ووفقا لعديد من المحللين، فإن السعر الرخيص للنفط الروسي، كان «سببا مباشرا»، لرفع واردات الهند من روسيا، والتي بلغت من فبراير عام 2022، حتى 5 أبريل 2023، ما يقدر بـ51.3 مليار دولار، بينما كانت العام السابق 10.6 مليارات دولار فقط، فيما تراجعت صادرات الهند إلى روسيا إلى 3.43 مليارات دولار، مقابل 3.61 مليارات دولار في العام السابق.
وفي إشارة إلى التحول الديناميكي الأوسع نطاقًا إلى نظام عالمي متعدد العملات؛ فإنه حين أخذت تجارة النفط الخليجية تتجه شرقا، وقل اعتماد «الولايات المتحدة» عليها، فضلا عن صعود «الصين»، لتصبح القوة الاقتصادية الثانية عالميًا، والشريك التجاري الأول لدول «مجلس التعاون الخليجي»، وسعيها إلى عقد اتفاقية تجارة حرة معها؛ فقد طلب الرئيس الصيني لدى لقائه قادة دول المجلس في السعودية ديسمبر2022، إمكانية سداد مشتريات النفط الخليجي باليوان الصيني، وهي الخطوة التي تعزز هذه العملة دوليا.
ومع ذلك، فإن انفكاك التعاملات المالية لدول الخليج عن الدولار، يعد أمرا سابقا لأوانه في الوقت الراهن، حيث ترتبط عملات هذه الدول به بسعر ثابت -فيما عدا الكويت التي ترتبط عملتها بسلة عملات – ما يجعلها تحتاج إلى الدولار للمحافظة على هذا السعر، خاصة أنها لا تعاني شحًا دولاريًّا، كما أن استمرار بيع النفط بالعملة الأمريكية من أهم عوامل قوة الدولار والسيولة النقدية الدولية، ونتيجة لذلك، ظهر مصطلح ما يُسمى بـ«البترودولار».
وفي عالم متعدد الأقطاب، فإنه مع السياسة المتوازنة، وتعدد الشركاء التي أخذت دول مجلس التعاون -خاصة السعودية– في اتباعها؛ فإن استخدام «اليوان»، في تسوية بعض المدفوعات، قد يظل «ممكنًا»، بشكل جزئي، وليس بشكل كامل، خاصة مع تقدم «السعودية»، و«الإمارات»، للانضمام إلى مجموعة «بريكس».
غير أنه لوضع الأمور في سياقها، وبالنظر إلى تجربة التعامل بالروبية بين روسيا والهند، يعترف العالم كله بحاجته إلى الدولار لتسوية تعاملاته، وبناء احتياطاته النقدية، ولا يستخدم «اليوان»، وغيره بنفس الدرجة التي يستخدم بها الدولار. ويكفي الإشارة إلى ارتفاع احتياطاته لدى دول «البريكس»، نفسها والبالغة نحو 4 تريليونات دولار؛ تستحوذ «الصين» وحدها منها على 3.2 تريليونات، كما تأتي في المرتبة الثانية بعد اليابان في قائمة كبار المستثمرين في سندات الخزانة الأمريكية بقيمة 870 مليار دولار. فيما يبلغ عدد شركاتها المدرجة في الأسواق المالية الأمريكية نحو 262 شركة، بإجمالي قيمة تسويقية تزيد على تريليون دولار، في حين تحتل «الولايات المتحدة»، المرتبة الأولى عالميًا في إجمالي الاستثمارات الأجنبية المتدفقة إليها، ويتجاوز حجم التجارة المتبادلة بينهما 700 مليار دولار، ما يعني أنه حتى في مجموعة «بريكس»، مازال الدولار يحتل مكانة كبيرة في تعاملاتها الخارجية.
وبالنظر إلى إعلان «البنك المركزي» العراقي، في فبراير2023، اتخاذ تدابير عاجلة لتمويل التجارة الخارجية مع «الصين»، باليوان – بعد أن كانت كل واردات العراق من «بكين»، تُدفع بالدولار فقط- فإن دوافع هذه الخطوة، وأهمها شح الدولار، لا توجد لدى دول الخليج، التي تتمتع بفوائض دولارية كبيرة، كما تتسع تجارتها لتشمل كل دول العالم، وليس فقط الدول المتعاملة باليوان، وهذه الدول تسوي مدفوعاتها بالدولار، فيما يزيد حجم التجارة الخارجية الخليجية على 1.1 تريليون دولار، بإجمالي واردات 478 مليار دولار، وإجمالي صادرات يزيد على 564 مليار دولار، في حين بلغت صادراتها إلى الصين 19.5%، والواردات منها نحو 20.6%، والباقي مع دول العالم، وهو ما يضع قيدًا على إمكانية تحول قيمة الصادرات الخليجية إلى عملات أخرى بغير الدولار.
من ناحية أخرى، ترتفع الاستثمارات الخليجية في أذون الخزانة الأمريكية، لتبلغ نحو 227 مليار دولار. وفي مارس2023، صرح ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، أن الاستثمارات السعودية في «الولايات المتحدة»، تبلغ نحو 800 مليار دولار، فضلا عن أن صناديق الثروة السيادية الخليجية مقومة بالدولار، والبالغ قيمتها نحو 2.6 تريليون دولار، كما أن مستحقات الديون الواجب سدادها من الدول والمؤسسات المقترضة من دول الخليج، وكذلك الديون الواقعة على هذه الدول مقومة أيضا بنفس العملة، فيما يشكل الدولار النسبة الأكبر من احتياطات النقد الأجنبي للبنوك المركزية الخليجية، بإجمالي احتياطات للسعودية 466 مليار دولار، والإمارات 205 مليارات دولار، وقطر 60 مليار دولار، والكويت 46.6 مليار دولار.
على العموم، هناك محددات كثيرة أمام التحول من الدولار إلى عملات أخرى، أهمها علاقات التجارة الدولية، والاستثمار، وعلاقات المديونية والدائنية، واحتياطيات النقد الأجنبي، كما أنه يظل إلى الآن – وفي الأجل القصير والمتوسط – العملة المرجعية في تقييم العملات والأصول، وهو بذاته مخزنًا مستقرًا للقيم، وأحد أهم الملاذات الآمنة، حتى لمجموعة البريكس نفسها التي زاد تعاملها البيني بعملاتها، حيث مازالت تتعلق كثيرًا بالدولار في معاملاتها الخارجية.
وعليه، فإن محاولات التحول نحو نظام عالمي لا يعتمد على الدولار، ستكون على الأرجح انتقالا تجاه عملة أخرى أو نظام مختلف، مثلما حدث عندما ابتعد العالم عن الجنيه الإسترليني نحو الدولار بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لا يُتوقع انهياره بالسرعة التي يتوقعها البعض، وإن كان هناك توقعات بأن هيمنته ستنتهي في نهاية المطاف في الآجال الطويلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك