تداعيات عديدة رتبتها الحرب الراهنة في أوكرانيا من بينها مواقف عديد من الدول من تلك الحرب ومن دون الخوض في تلك المواقف مجدداً والتي تتأسس على المصالح الوطنية لكل دولة فإنه من بين تلك التداعيات إثارة النقاش مجدداً حول مبدأ عدم الانحياز ذاته وهي الفكرة التي تأسست عليها حركة عدم الانحياز خلال المؤتمر الأول لمؤسسيها عام 1955، ومنذ رئاستها الدورية خلال الفترة ( من 2019-2023) للحركة بذلت الحكومة الأذربيجانية جهودا عديدة لتفعيل دور تلك الحركة مجدداً ومن ذلك المؤتمر الذي نظمه مركز تحليل سياسات العلاقات الدولية بالتعاون مع وزارة الخارجية الأذربيجانية في الفترة من 16-17 مايو 2023 بعنوان «من باندونج إلى باكو: حركة عدم الانحياز في سياق عالمي بين التحولات والتحديات»، وقد تلقيت دعوة كريمة من منظمي المؤتمر لتقديم رؤية من منطقة الخليج العربي حول هذا الموضوع وهي التي أشرت إليها في مقالي السابق، وقائع المؤتمر خلال اليومين على مدى خمس جلسات كانت مهمة للغاية لعدة اعتبارات أولها: إنها كانت عبارة عن حوار شامل بين باحثين من أربع مناطق مختلفة من العالم وهم ممثلون عن الجانب الأذربيجاني سواء من وزارة الخارجية أو البرلمان أو الباحثين المتخصصين في تلك القضية، ومن منطقة الخليج العربي حيث كانت مداخلتي الوحيدة من تلك المنطقة، ومن الدول الأوروبية، وأخيراً من الدول الإفريقية وخاصة تلك التي كانت من مؤسسي تلك الحركة في بدايتها، وثانيها: إن الحديث لم يكن مرتبطاً بالحركة ذاتها سواء من حيث الهيكل أو التطور أو كيفية تفعيل دورها في المستقبل فحسب وإنما ارتبط بهيكل النظام العالمي الراهن وما يتيحه للحركة من فرص وما يفرضه من تحديات وهو أمر مهم في حد ذاته لأن تنظيمات من هذا النوع وهي تضم أغلبية عددية من الدول لا يتوقف نجاحها على إرادة أعضائها فحسب وإنما ضمن السياق الإقليمي والعالمي في الوقت ذاته، وثالثها: ما أسفرت عنه النقاشات بشأن وجود تحديات مشتركة لدول الحركة وهي التحديات ذاتها التي تواجه كل دول العالم ابتداءً بالأمن الغذائي ومروراً بالهجرة غير الشرعية واللاجئين وانتهاءً بالإرهاب وكذلك التغير المناخي، ورابعها: إعادة تأكيد المناقشات على رغبة دول الحركة بالتمسك بمضامين الميثاق المنشئ لها وخاصة في ثلاثة مجالات وهي المصالح الوطنية والهوية ودعم الوحدة الوطنية.
وتأسيساً على تلك الاعتبارات فقد اتسمت لغة المؤتمر بالصراحة والشفافية فقد كان لافتاً إثارة قضية ضرورة دعم الحوار الحقيقي بين الشمال والجنوب وليس مجرد إصدار بيانات ضمن السياق العالمي المتحول الآن لأن ذلك هو السبيل الوحيد لاستعادة التضامن لقاموس العلاقات الدولية مجدداً، فضلاً عن ضرورة الاستفادة من قصص النجاح التي حققتها بعض دول الحركة على مدى تاريخها وكان لها أثر في دعم الحركة، بالإضافة إلى أهمية مأسسة دور الحركة عالميا من خلال السعي إلى الحصول على مقعد في مجلس الأمن لدول العالم الثالث وهي الأغلبية التي تتكون منها دول الحركة وتضم حوالي 55% من سكان العالم، بالإضافة إلى أهمية سعي دول الحركة لتوظيف اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لإيصال صوتها وقضاياها إلى العالم والهدف الأسمى لذلك هو ترسيخ مفهوم التعددية في النظام العالمي بما يتيح تعديل الآليات التي يعمل بها النظام العالمي الراهن وخاصة في ظل وجود توجهات تساوي بين الحكومات الوطنية والجماعات دون الدول وهو توجه يرتب آثاراً خطيرة سواء بالنسبة إلى الأمن القومي للدول أو منظومة العلاقات الدولية برمتها.
ولعل الأمر المهم هو تركيز المداخلات على تجربة الحركة ذاتها وأدائها خلال السنوات الماضية والتي لم تكن من السهولة بمكان سواء للحركة أو للدول المضيفة وهي أذربيجان، حيث شهدت فترة رئاستها للحركة أزمتين كان لهما آثار عالمية حادة عابرة للحدود وهما تحدي جائحة كورونا بداية عام 2020 والحرب الأوكرانية بداية عام 2022 حيث نجحت حركة عدم الانحياز في قمتها عام 2020 في تأسيس قاعدة بيانات تحدد من خلالها الاحتياجات الطبية للدول الأعضاء خلال مواجهة فيروس كورونا آنذاك في الوقت الذي أخفق فيه العالم في تأسيس تحالفات دولية للغرض ذاته وهو ما يعكس أهمية منظمات العمل الجماعي خلال أزمات من هذا النوع، بالإضافة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول الصغرى في دعم القرارات التي تهم مصالح دول أخرى ومن ذلك تصويت جيبوتي لصالح أذربيجان خلال القرار الذي أصدره مجلس الأمن عام 1993 في النزاع مع أرمينيا، وبوجه عام يلاحظ أن تصويت دول الحركة خلال مناقشة القرارات الدولية بدرجة كبيرة يكون لصالح المبادئ بغض النظر عن المصالح.
وقد كان لافتاً خلال المناقشات أنه ومنذ العام الأول لرئاستها للحركة حرصت أذربيجان على دعم الحركة من أجل تحقيق التعددية في النظام العالمي وكذلك ترسيخ مبادئ مؤتمر باندونج من خلال التنسيق الفعال بين الدول الأعضاء ووضع أولويات من خلال عدة مسارات سواء مبادرات حكومية أو غير حكومية، ومنها التعامل مع تحدي كورونا ومبادرات بشأن دور المجتمع المدني والشباب وكذلك التعاون البرلماني بين الحركة وبعض التجمعات البرلمانية في العالم.
وبوجه عام فقد أسفرت نقاشات اليوم الأول عن عدة نتائج مهمة للغاية من بينها أن حركة عدم الانحياز التي لعبت دوراً مهماً للغاية خلال حقبة الحرب الباردة مؤهلة اليوم لأن تؤدي الدور ذاته في ظل احتدام الصراع والتنافس الدولي مجدداً والذي يفرض خيارات بالغة الصعوبة على الدول كافة وعلى نحو خاص دول العالم الثالث التي تستهدف تعزيز مبادئ الحركة مجدداً وخاصة تحريم استخدام القوة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول بما يعني إيجاد طريق ثالث في منظومة العلاقات الدولية سواء في الوقت الحالي أو مستقبلاً، بالإضافة إلى ترسيخ آلية الحوار للتعامل مع الصراعات بين الدول عبر تلك الآلية بعيداً عن استخدام القوة، فضلاً عن مقترح دعوة بعض الدول الأخرى للانضمام إلى تلك الحركة، وضرورة التعاون بين الحركة والمنظمات الإقليمية الأخرى مثل الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، أيضاً إمكانية أن تلعب الحركة دور الوساطة تجاه بعض النزاعات.
وعلى الرغم من أهمية تلك الرؤى التي التقت أحياناً وتقاطعت أحايين أخرى انطلاقا من تباين مصالح بعض الدول وهو ما كان واضحا خلال مداخلات المشاركين فإنه كان هناك إجماع بين المشاركين على وجود تحديات عديدة تواجه حركة عدم الانحياز في الوقت الراهن وهو ما سوف يكون موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك