مرض كورونا، أو كوفيد_19 الذي سببه فيروس سارس (SARS-CoV2) لم ينته ميدانيا وواقعيا، فالحالات المرضية والوفيات من المرض مازلنا نسمع عنها في كثير من دول العالم، وهذا المرض والفيروس المسبب له لن ينته أبدا، فقد تغلغل في أعماق شرايين المجتمع البشري وتجذر في عروقه، ولكن هذا المرض حسب منظمة الصحة العالمية دخل مرحلة إدارية جديدة تختلف عن المرحلة الطارئة السابقة التي استمرت قرابة ثلاث سنوات، بدءاً من 30 يناير 2020، عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية «حالة الطوارئ الصحية العامة على المستوى الدولي»، وعندما أخذ الفيروس يزحف ويغزو سريعا إلى كل شبرٍ بعيد أو قريب من كوكبنا حتى أصبح خارج إطار سيطرة الإنسان.
فقد أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية انتهاء حالة الطوارئ الصحية الدولية لمرض كورونا في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في جنيف في الخامس من مايو 2023، حيث قال: «إذن، وبأملٍ كبير، أُعلن أن كوفيد_19 قد ولى كحالة طوارئ صحية دولية». ولكن في الوقت نفسه فإن هذا الإعلان لا يعني أن الصُحف قد طُويت حول هذا المرض، وأن الأقلام قد جفَّت وأصبح مرض كورونا جزءا من التاريخ الصحي المعاصر، فاستناداً إلى تصريحات مدير عام منظمة الصحة العالمية فإن مخاطر هذا المرض الخطير الذي أودى حتى الآن بحياة نحو 20 مليون إنسان قضوا نحبهم خلال فترة قصيرة جداً، وسقط أكثر 765 مليون مريض يعاني من شدة السقم وطول المعاناة، ستظل مستمرة، كما أن التهديدات الصحية الناجمة عن هذا الفيروس العصيب لن تنتهي قريباً.
فهذا الإعلان من المنظمة إداري وإجرائي، فهو يُعلن دخول المرض حقبة جديدة من تاريخه تختلف عن مرحلة الأزمة وحالة الطوارئ الفورية السابقة، فالدول تستطيع أن تفك الحزام عن الإجراءات السابقة التي اتخذتها عدة سنوات، وتستطيع أن تُخفف من القيود الصارمة التي فرضتها على الشعوب من ناحية التباعد، ولبس كمامة الوجه، وغيرهما من الممارسات اليومية غير العادية والخاصة بنزول هذا الوباء الدولي.
فالآن يمكن التعامل مع مرض كوفيد_19 كغيره من الأمراض المعدية الموسمية كمرض الأنفلونزا والزكام والبرد الموسمي المحلي العادي، إضافة إلى الأمراض المعدية المعروفة غير الموسمية التي يتعرض لها الإنسان في كل أنحاء العالم، أي إن هذا المرض كباقي الأمراض يحتاج إلى إدارة مستدامة طويلة المدى، فيكون دائماً تحت أعين ومراقبة الإنسان، فلا يغفل عنه لحظة واحدة، ولا يتجاهل وجوده في المجتمع البشري. ومن أجل تحقيق هذا الهدف الإداري الجديد نَشرتْ منظمة الصحة العالمية الوثيقة الرابعة، أو الخطة الاستراتيجية المستقبلية المتعلقة بإدارة المرض للسنتين القادمتين، تحت عنوان: «الخطة الاستراتيجية الدولية للاستعداد والجاهزية والاستجابة لكوفيد_19 لأعوام 2023 إلى 2025» (The Global Strategic Preparedness, Readiness and Response Plan).
وهناك سبب آخر يدعوني إلى القول بأننا سنعاني، وربما بدرجة أقل من ذي قبل من شر هذا الوباء، وسيبقى معنا الفيروس المسبب للمرض وسيجثم في أعماق مجتمعنا سنوات طويلة قادمة، وهذا السبب الثاني هو عدم إجماع العلماء على مصدر هذا المرض، وعدم تحديد العلماء يقينا وبالأدلة الدامغة المحسوسة كيفية تفشي هذا المرض من الصين، فحتى كتابة هذه السطور لم ينجح العلماء في فك تفاصيل لغز هذا المرض.
فهناك عدة نظريات تحوم وتدور في أروقة المجتمع الدولي وبين العلماء المهتمين حول مصدر هذا المرض ومنبع الفيروس، ومكان انتشاره منذ الأيام الأولى من ولادته والكشف رسمياً عن المرض. أما النظرية الأولى السائدة، والتي تُقدم تفسيراً أولياً ومبدئيا، فهي أن الفيروس انتقل من أحد الحيوانات المكدسة التي كانت موجودة في أقفاص كثيرة، صغيرة، ومكتظة في سوق ووهان في مدينة ووهان الصينية لبيع الحيوانات البرية الفطرية، ومعظم الآراء تفيد بأن هذا الحيوان هو الخفاش، أو حيوان آخر وسيط انتقل المرض إليه من الخفاش، ومنه إلى الإنسان. ولذلك فإن الحالات المرضية الأولى التي تم اكتشافها وتشخيصها في الصين كانت من زوار هذا السوق. وبالرغم من أن هذه النظرية هي التي يعتقد بها كثير من العلماء، إلا أن منظمة الصحة العالمية نفسها لم تغلق الباب أمام النظريات الأخرى والتفسيرات الثانية لمصدر الفيروس. فهذه المنظمة قدَّمت استنتاجات التقرير الختامي لآخر فريق تحقيق دولي تابِع لها في 30 مارس 2021، وهذه الاستنتاجات جاءت متوافقة مع الرأي السائد حول الفيروس، وهو رأي الصين وكثير من علماء العالم، ولكن في الوقت نفسه من دون إغلاق الباب كليا أمام نظرية احتمال تسرب الفيروس من المختبر في الصين، ومن دون إهمال هذه النظرية وتجاهلها تماماً، حيث قدَّم التقرير إشارة إليها، فجاء فيه إن نظرية التسرب هي الأقل ترجيحاً، وأنها «جداً غير محتملة» (extremely unlikely). كما جاءت إشارة أقوى، وأكثر وضوحاً حول نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان من المدير العام للمنظمة عندما قال إنه بالرغم من أن التسرب في المختبر هو السبب الأقل احتمالاً، إلا أن هناك حاجة إلى مزيد من البحث المكثف، ومن التحقيق الدقيق لاستبعاده، كما أضاف أنه: «فيما يتعلق بمنظمة الصحة العالمية فإن جميع الفرضيات مطروحة على الطاولة».
وقد أخذت نظرية التسرب من مختبر في الصين زخما علميا وسياسيا كبيرين في 26 فبراير 2023 عندما نَشرت أولاً جريدة «الوال ستريت جورنل» (Wall Street Journal) ثم النيويورك تايمز وصحف أخرى خبراً نَقلا عن تقييم سري وتقرير جديد لوزارة الطاقة، والتي تقع تحت إشرافها شبكة من المختبرات الاتحادية السرية وغير السرية، والذي تم تقديمه إلى البيت الأبيض وبعض أعضاء الكونجرس. وأهم النقاط الجديدة التي وردت في التقرير هي تغيير رأي وموقف وزارة الطاقة وبعض الأجهزة الاستخباراتية الأخرى حول مصدر فيروس كورونا.
فالنظرية الجديدة التي طُرحتْ «بثقة ضعيفة»، أو «ثقة منخفضة» من قبل وزارة الطاقة هي أنه على الأرجح أن مصدر الفيروس هو التسرب الذي حَدَثَ عرضيا وعن طريق الخطأ من المختبر في معهد ووهان لعلم الفيروسات في مدينة ووهان الصينية، وقد ساند هذا الرأي عدة أجهزة أمنية واستخباراتية، وليست كلها، وفي مقدمتها «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي أي)، حيث استنتج وبثقة «معتدلة» (moderate confidence) أن المصدر الأرجح لمسقط رأس الفيروس هو المختبر الصيني، وأنه انتقل إلى جسم الإنسان عن طريق تسرب عرضي. وقد أكد هذا الاستنتاج مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي (Christopher Wray) في 28 فبراير 2023 عندما قال إنه من الأرجح أن المرض بدأ من مختبر ووهان، وأنه بسبب تسرب غير متعمد عن طريق الخطأ. وأما البيت الأبيض فقد وقف على الحياد من هذه النظرية، ربما لأسباب سياسية، فقد أعلن «جيك سوليفان» (Jake Sullivan) مستشار الأمن القومي في 27 فبراير 2023 مباشرة بعد تسريب الصحيفة للخبر الجديد في 26 فبراير أن إدارة بايدن لم تتوصل إلى إجماع حول مصادر الفيروس، وهناك العديد من الآراء المختلفة حول مصدره، حيث قال: «حالياً، لا يوجد جواب نهائي صادر عن مجتمع الاستخبارات حول هذا السؤال»، فمجتمع الاستخبارات مازال منقسماً ومختلفا حول نظرية مصدر الفيروس. وفي السياق نفسه، قال «جون كيربي» (John Kirby) المتحدث باسم «مجلس الأمن القومي» ( National Security Council) في 27 فبراير: «ما يريده الرئيس هو الحقائق»، كما أضاف قائلاً إن: «مجتمع الاستخبارات وباقي وكالات الحكومة مازالوا يبحثون في هذه القضية، فلا يوجد استنتاج نهائي».
ولذلك فمع عدم وجود تفسير علمي وموضوعي ومستقل لمنبع الفيروس بسبب التعقيدات والصعوبات السياسية والعلمية، وعدم تعاون وسوء نية الدول المعنية مباشرة بالقضية، إضافة إلى دخول الدوافع الانتهازية والنظريات غير الموضوعية والمستقلة، فإن حل لغز مصدر الفيروس الذي أعاق حركة البشرية جمعاء سيكون صعباً جداً، وربما مستحيلا، وسيبقى الفيروس معنا وفي ذاكرتنا وفي حياتنا اليومية ربما لعقود قادمة.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك