بمناسبة يوم الأبحاث العلمية الطبية السنوي ننتهز هذه الفرصة للحديث عن البحث العلمي بشكل عام. يتم تقييم الجامعات العالمية وفق قدراتها البحثية والمشاركة في إنتاج المعرفة، فهذا ما يميز الجامعات العريقة عن الجامعات الأخرى. للأسف في وطننا العربي قليل من الجامعات تصل إلى الإيفاء بمتطلبات هذه المعايير وقليل منها يصل إلى أفضل 500 جامعة. في السنوات الأخيرة استطاعت جامعة الملك سعود في السعودية تحقيق تقدم في المعيار. لكن الأهم أن يتوفر زخما من الجامعات العربية (كتلة حرجة) قادرة على اختراق عالم إنتاج المعرفة والابتكار واللذين يعدان أساس الإنتاجية وتحسين مستويات المعيشة. فالإبداعات والاكتشافات لا تأتي من فراغ ولا من العقول المنفردة المنعزلة. إن حوار المبدعين من التخصصات المختلفة يمثل وقود الفكر النقدي ومولد للأفكار والابتكار. مناسبة ذلك أن اقتصاديات الدول العربية مازالت تعتمد في نشاطها الاقتصادي وإيرادات حكوماتها على عوائد المواد الخام النفطية أو السياحة ولم تدخل عالم الصناعة والإنتاج بعد، وربط النشاط الاقتصادي بالميزانية العامة من خلال ضرائب الدخل والثروة.
السؤال الذي يراود مفكري الاقتصاد العربي والخليجي بشكل خاص، ويدور في حوارات وكتابات المهتمين بالشأن السياسي والاقتصادي والتنموي في دولنا العربية هو: «ماذا بعد النفط»؟. يطرح البعض التغيرات الديمغرافية (الزيادة السكانية) والتضخم العالمي كعوامل ضغط لضرورة التفكير في بدائل قبل 2050. إلى متى تبقى الدول العربية تابعة اقتصاديا، ضعيفة المساهمة الفاعلة في صنع مستقبلها؟! هذا السؤال مطروح ضمنيا في جميع ما يكتب في الصحافة وفي الحوارات الاقتصادية والرؤى الوطنية وفي الندوات العامة. لماذا لم تتمكن الدولة العربية إلى الآن من التحول نحو اقتصاد الإنتاج واقتصاد المعرفة وبناء القدرات وعناصر النجاح فيه؟ أم إنها في طريق التحول؟
المحرك الأساسي للتقدم في تلبية متطلبات السؤال المطروح يكمن في مجال التعليم والبحث العلمي والتحرر الفكري والكفاءة المؤسسية والإصلاحات السياسية. مالم تحقق الدول العربية تقدما في هذه المقومات فقد يستمر التراجع في مستويات المعيشة المادية والمعنوية وتضر بالأمن الوطني والعربي والدخول في مزيد من الصراعات والاضطرابات. فهل تحظى الجامعات العربية ومراكز الأبحاث فيها بالرعاية والدعم الكافيين لتحقيق أهدافها؟ وهل تدرك القيادات المختلفة أهمية تنمية القدرات الإنتاجية والابتكارية والتنافسية وما تتطلبه من انفتاح واستقرار سياسي وتنوع فكري وتعددية اجتماعية وأمن اقتصادي؟
بالنظر إلى أداء الدول العربية في التعليم والبحث العلمي واقتصاد المعرفة هناك على عدد من القضايا التي تؤثر في النتيجة تحتاج مراجعة الموقف منها والسياسات المعتمدة لتنميتها. فوفق مؤشر الابتكار ومؤشر اقتصاد المعرفة ومؤشر التنافسية وغيرها من مؤشرات التنمية فإن التعليم والبحث العلمي والانفتاح يأخذون مركز الصدارة. من هذه المؤشرات يمكن استنتاج العوامل المؤثرة والداعمة للتقدم في التعليم والبحث العلمي وبالتالي النمو الاقتصادي والاجتماعي وخلق فرص عمل وتحسين مستويات المعيشة وجودة الحياة للمواطنين.
فمثلا مؤشر المعرفة العالمي يتكون من سبع قطاعات وعناصر، ثلاثة منها تتعلق بالتعليم والرابع بالبحث العلمي. غير أن الأهم والذي تتراجع معدلات الدول العربية فيه هو عنصر «البيئة التمكينية»، والذي يشمل متغيرات مثل الاستقرار السياسي وحرية الصحافة، ومستوى البطالة بين الشباب، ومستوى التمكين في المجتمع (تشمل المشاركة السياسية الفعالة) والمستوى الصحي والبيئي. فهذه عناصر تتحدث عن البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية وكل ما تحمل من تأثير في البيئة المعرفية والاستثمارية. نتيجة الدول العربية في هذا العنصر عام 2019 كانت 48% بينما متوسط الدول المتقدمة 82%.
بالنسبة إلى مؤشر الابتكار وبناء القدرة الابتكارية فيتكون من خمسة عناصر هي شبكات الريادة، الموارد المالية، الموارد البشرية، الثقافة الوطنية، والكفاءة المؤسسية. يضع المؤشر أهمية كبيرة للتعليم والبحث العلمي ومستوى الإنفاق العام والخاص على البحث ومدى التعاون بينهما، ونسبة المتعلمين والجامعيين في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ونسبتهم من المجتمع. بالإضافة إلى ذلك يشمل المؤشر الكفاءة المؤسسية والتي تتضمن الاستقرار السياسي وحكم القانون ومستوى الفساد ومدى خضوع السلطة التنفيذية للمساءلة. غير إن ما يلفت النظر في مؤشر الابتكار ومؤشر الاقتصاد المعرفي أهمية الثقافة الوطنية وما تتفرع منها من متغيرات تتعلق بمدى التشاركية في اتخاذ القرارات بجميع أنواعها، ونظرة المجتمع إلى الفردانية والاستقلال الفكري والقدرة على الاختلاف والتعبير عنه من دون خوف من رفض المجتمع له أو تعرضه لإرهاب فكري يمنع الحرية الفكرية وحرية التعبير وحق الاختلاف. فالحرية الفكرية وحرية التعبير وحرية الصحافة من أهم مرتكزات هذه المؤشرات بما فيه مؤشر التنافسية العالمي. فقد تُحقق الدولة مراكز متقدمة في المؤشر لكنه لا ينعكس على أدائها الاقتصادي الفعلي، حيث لا بد من تحقيق حد أدنى في عناصر البيئة التمكينية من حريات عامة وكفاءة مؤسسية وتشاركية لكي يترجم الأداء إلى تقدم فعلي.
في مثل هذه الظروف، وفي ظل متطلبات هذه المؤشرات من إصلاحات سياسية واجتماعية وفكرية فإن الرؤية التعليمية التقليدية ووسائلها غير كافية لمعالجة تحديات المنطقة لإحداث هذا التحول، كما أنها غير كافية لمعالجة مشاكل آنية ومستمرة مثل تجويد مخرجات التعليم وبناء رأس مال بشري لتلبية متطلبات المرحلة الانتقالية نحو الدولة المنتجة وغير كافية لتأهيل المواطن والمجتمع والاقتصاد لضروريات التنافسية في الأسواق المحلية والإقليمية والعالمية.
التغيير يتطلب إحداث تحولات في التعليم لتواكب متطلبات الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها. الفرضية أن الإنسان العربي غير مؤهل ثقافيا وفكريا لاستيعاب التحولات ومقتضياتها المعرفية والفكرية والثقافية والعلمية ليس صحيحا. لكي ندحض هذه الفرضية على القيادات والشعوب العربية عليها أن تغير من نظرتها إلى العلاقة بين المجتمع والدولة وعدم الاعتماد على القيادات التاريخية التي برزت على الساحة مع الحركات القومية.
الدولة الحديثة اليوم تعتمد على قوة المجتمع وقرارات صادرة من مؤسسات تخضع للمساءلة والرقابة وتتعرض قراراتها للنقاش والحوار والنقد والتصحيح التلقائي (أو ما سمي في مؤشر الابتكار power distance).
العالم العربي أمام تحدٍ كبير في خلق هذه البيئة الداعمة للابتكار والإبداع والمشاركة الفاعلة في اقتصاد المعرفة والفاعلية في التنافسية العالمية. من دون هذه التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية سوف يستمر الوطن العربي تحت سلطة بعض الأنظمة التسلطية وضحية لصراعاتها كما في السودان حاليا، وتحت هيمنة الدول الكبرى واستغلالها لمواردها والاستمرار في زرع الفتن لإبقائه في حالة من عدم القدرة على الحراك ودخول المنافسة المتكافئة في اقتصاد إنتاجي يقوم على الابتكار والإبداع.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك