على ما يبدو أن قطاعات الأعمال باتت أكثر انفتاحاً على بناء استراتيجيات واضحة للبحث والتطوير لتواكب وتساير المستجدات في العالم وعلى الأخص مجالات التحول الرقمي.
فمن الملاحظ تزايد الاستثمار السنوي في التطوير بنحو 4 في المائة سنويا على مدى العقد الماضي، ومن الملفت في عام 2019 تنامي الانفاق على البحث والتطوير إلى حوالي 2.3 تريليون دولار، ما يعادل حوالي 2 في المائة (2%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكان نصيب القطاع الصناعي هو الأكبر بما يعادل نصف هذا الرقم من الانفاق، والباقي من الحكومات والمؤسسات الأكاديمية، وهذا الإنفاق في الواقع يستهدف الوصول الى تكنولوجيا حيوية «ديناميكية» تحقق نقلة مستدامة ومتقدمة في المنتجات والخدمات ونماذج الأعمال.
لأجل ذلك بات من الضروري أن يكون دور البحث والتطوير مركزياً في منظومة العمل وذلك من خلال المشاركة في تقديم وتشكيل استراتيجية الشركة الرئيسية والمبادرات الثانوية، بما يضمن استمرارية التحسين المستمر «الكايزن» في المنتجات ويكشف عن الخيارات الاستراتيجية وأفضل البدائل، ويسلط الضوء على الطرق الواعدة لإعادة وضع الأعمال على الخارطة، وبما يتواكب مع متطلبات الأسواق، بل وبما يكون سبباً في خلق حاجة الأسواق الى منتجات مبتكرة غير مسبوقة.
ورغم تنامي التوجه ناحية البحث والتطوير إلا أن العديد من الشركات تفتقر إلى استراتيجية واضحة للبحث والتطوير لتحقيق تطلعات المنظومة على مستوى القطاع ككل، وليس فقط تطوير العمل داخل الشركة، ويعزى ذلك إلى أن البحث والتطوير يعمل بمعزل عن أولويات الشركة، ومنفصلا عن تطورات الأسواق وأحداثها، وغير متزامن مع سرعة تطور الأعمال، كما أن هنالك فجوة متزايدة بين الذين يبتكرون وأولئك الذين لا يملكون قدرات وروح الابتكار، مخافة هؤلاء من التغيير الذي قد يتجاوز إمكانياتهم وقدراتهم ومهاراتهم التقليدية.
يتطلب بناء استراتيجية دقيقة للبحث والتطوير القيام بثلاث خطوات أساسية: أولاً فهم التحديات التي غالباً ما تعمل كحواجز أمام نجاح البحث والتطوير، ثانياً اختيار العناصر والموارد المناسبة لاستراتيجية البحث والتطوير، وأخيراً عمل الاختبارات اللازمة لضمان سير العمل على النحو اللازم.
بالحديث عن التحديات وهي الخطوة الأولى لبناء استراتيجية البحث والتطوير في فهم التحديات الأربعة الرئيسية التي تواجهها منظمات البحث والتطوير الحديثة:
{ أدى الاعتماد المتزايد على البرامج وتوافر تقنيات المحاكاة إلى انخفاض كلفة التجريب مع زيادة إنتاجية البحث والتطوير. ومما زاد من سرعة الابتكار المؤسسي، الظهور المتزايد للتكنولوجيات القابلة للتطبيق على نطاق واسع، مثل التكنولوجيا الرقمية والتكنولوجيا الحيوية، كل ذلك أدى إلى تسارع دورات الابتكار.
في ذات الوقت نرى ان الشركات الناشئة الممولة تمويلا جيدا تقوم بتطوير الابتكارات وتوسيع نطاقها بسرعة، التي غالبا ما تهدد بزعزعة نماذج الأعمال القائمة أو توجيه نمو الصناعة إلى مجالات جديدة، وإذا أضفنا إلى ذلك زيادة تدقيق المستثمرين في الإنفاق على البحوث، فإن النتيجة هي زيادة الضغط على مديري البحث والتطوير لإظهار نتائج جهودهم بسرعة.
{ تميل مجموعة البحث والتطوير إلى العزلة عن بقية المنظمة وكأنها تعمل في صندوق مقفل، وهو ما يتطلب الانفتاح نحو الإدارات والاقسام المختلفة لتتمكن من فهم الاحتياجات والعقبات والطموحات والاهداف القصيرة والمتوسطة والطويلة بالشكل الأمثل.
{ تفتقر مجموعات البحث والتطوير في معظم القطاعات إلى آليات فعالة لقياس التقدم المحرز؛ حيث إن صناعة المستحضرات الصيدلانية والأدوية مع خط إنتاجها القياسي للعلاجات الجديدة التي توفر مقاييس التقدم والآثار المترتبة على التقييم، هي الاستثناء وليست القاعدة. عندما يتم تفسير الفشل على أنه التجريب ويتم وصف النجاح من حيث براءات الاختراع، بدلا من الأرباح، يجد قادة الشركات صعوبة في تحديد مساهمة البحث والتطوير. ومع ذلك، توجد مقاييس مثبتة لقياس التقدم والنتائج بشكل فعال. يتمثل التحدي المشترك الذي نلاحظه في منظمات البحث والتطوير، بدءا من شركات السيارات إلى الشركات الكيميائية، في كيفية تقييم مساهمة مكون واحد يمثل لبنة بناء لمنتجات متعددة.
حتى مع قياس النتائج بوضوح، فإن الفترة الطويلة في كثير من الأحيان بين الاستثمار الأولي والمنتج النهائي يمكن أن تحجب أداء منظمة البحث والتطوير. ومع ذلك، يمكن إدارة هذا أيضا بشكل فعال من خلال تتبع القيمة الإجمالية والتقدم الإنمائي لخط العمل حتى تتمكن المنظمة من الاستجابة.
{ بالاطلاع على مجموعة من البحوث ارتأينا ان المشاريع الإضافية تمثل أكثر من نصف استثمار الشركة المتوسطة في البحث والتطوير، على الرغم من أن الرهانات الجريئة وإعادة التخصيص القوي لمحفظة الابتكار تحقق معدلات نجاح أعلى. تميل المؤسسات إلى تفضيل المشاريع «الآمنة» ذات العوائد على المدى القريب - مثل تلك الناشئة عن طلبات العملاء - والتي في كثير من الحالات لا تفعل أكثر من الحفاظ على حصتها السوقية الحالية.
على سبيل المثال، قسمت إحدى شركات السلع الاستهلاكية ميزانية البحث والتطوير بين وحدات أعمالها، التي استخدم قادتها الأموال بعد ذلك لتحقيق أهدافهم القصيرة الأجل بدلا من أهداف النمو الأطول أمدا للشركة.
لا شك أن نضوج الشركات، يجعل النمو المدفوع بالابتكار ذا أهمية متزايدة، وخصوصا مع تضاؤل الوسائل التقليدية للنمو، مثل التوسع الجغرافي والدخول في قطاعات السوق غير المستغلة، والاتجاه نحو تطوير استراتيجيات البحث والتطوير المجهزة للعصر الحديث، والتي لا تتعامل مع البحث والتطوير كمركز للتكلفة ولكن كمحرك للنمو القطاعي.
{ باحثة دكتوراة في إدارة الابتكار – جامعة الخليج العربي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك