يرجع تأسيس حركة عدم الانحياز إلى مؤتمر باندونج بإندونسيا عام 1955، تلك الحركة التي تكونت في بدايتها من 29 دولة، من بينها مصر والهند وإندونسيا، وقد نشأت في ذروة الحرب الباردة، وحقبة ما بعد إنهاء الاستعمار في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية، وعلى الرغم من أن الحركة استهدفت تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين دولها فقد كان واضحا أن الهدف الرئيسي هي فكرة اتخاذ سياسات مستقلة عن المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي آنذاك، وقد يكون معروفاً للكثيرين مبادئ الحركة العشرة الشهيرة التي أعلنتها آنذاك إلا أن أهمها هي احترام حقوق وسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والامتناع عن تهديد أي دولة وحق كل دولة في الدفاع عن أراضيها سواء بشكل فردي أو جماعي.
وعلى الرغم من الارتباط الوثيق بين نشأة الحركة وطبيعة النظام العالمي آنذاك فإن تقييم الحركة قد ظل مرتبطاً بتطور ذلك النظام، بمعنى أنه في أعقاب انتهاء الحرب الباردة ساد جدل حول استمرار الحركة وجدواها وخاصة أن حالة الاستقطاب الدولي التي كانت سبباً رئيسياً في نشأة الحركة قد تلاشت منذ عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن الحركة قد أعيد تسليط الأضواء عليها خلال العام الماضي لثلاثة أسباب الأول: الجدل الذي أثير بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا حول طبيعة النظام الدولي الراهن، ومفاده هل نحن بصدد تحولات في ذلك النظام نحو التعددية على نحو مغاير لذلك النظام الذي ساد لأكثر من عقدين من الزمان؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فإن التساؤل المنطقي ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى دول العالم الثالث التي تعبر عنها بعض التنظيمات مثل حركة عدم الانحياز، أما السبب الثاني فهو مواقف عديد من الدول تجاه الصراع الدائر في أوكرانيا ومن بينها عدد من الدول الإفريقية وغيرها من دول العالم والتي قررت عدم الانحياز لهذا الطرف أو ذاك ، والثالث: الحديث عن تأثير توازن القوى داخل منظمة الأمم المتحدة وتعارض المصالح التي تحول دون أخذ مصالح دول العالم الثالث بعين الاعتبار وخاصة عندما يرتبط الأمر بقضايا النزاعات على الطبيعية ومن بينها المياه.
وبعيداً عن الخوض في إعادة تسليط الضوء على تطور تلك الحركة واستحواذها على اهتمام عديد من الدول مؤخراً فإن التساؤل الأهم ما هو تأثير عودة تلك الحركة على قضايا الخليج العربي؟ مؤخراً تلقيت دعوة من أحد المراكز الفكرية في أذربيجان للمشاركة في مؤتمر للحديث عن تلك القضية، وفي تقديري أن تلك الحركة تعد مهمة لدول الخليج العربي لثلاثة أسباب أولها: إن المبادئ التي ترتكز عليها الحركة ومنها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها وحق الدول في الدفاع عن نفسها، صحيح أنها مبادئ أممية في الوقت ذاتها ولكنها جوهر السياسات الخارجية لدول الخليج العربي ، وثانيها: إن دول الخليج العربي كدول صغرى ومتوسطة تتمثل أحد خياراتها الأمنية في سياسة عدم الانحياز وخاصة خلال الصراعات وقد سعت دول الخليج إلى تطبيق ذلك المبدأ خلال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات على سبيل المثال إلا أنه لا يدوم طالما لم ترغب الأطراف الأخرى في احترامه وهو ما حدا بدول الخليج إلى أن تنخرط بشكل غير مباشر في تلك الحرب، وثالثها: إن غاية الدول الصغرى والمتوسطة في العالم الذي يتسم بتراتبية معينة لتوازن القوى هي وجود منظمات تعكس مصالح تلك الدول عموماً وإبان الأزمات على نحو خاص، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي أخفقت فيه الجهود الدولية في تشكيل تحالف عالمي لمواجهة فيروس كورونا على غرار ذلك التحالف الذي قادته الولايات المتحدة لمواجهة فيروس أيبولا في غرب إفريقيا عام 2014 فإن حركة عدم الانحياز قد نجحت خلال قمتها التي انعقدت في 2020 في تأسيس مجموعة عمل للحركة بهدف إعداد قاعدة بيانات يمكن من خلالها تحديد احتياجات الدول الأعضاء خلال مواجهة ذلك الوباء في وقت شهد فيه القطا ع الصحي في كل دول العالم اختبارا غير مسبوق.
ومع أهمية ما سبق فإن تسليط الضوء على تلك الحركة مجدداً لا يعني أن العالم بصدد الاصطفاف في تنظيمات على أسس أيديولوجية مجدداً وإنما في ظل تداعيات وباء كورونا وكذلك الحرب الأوكرانية ومن بينها تحدي الأمن الغذائي، بالإضافة إلى حدة التنافس والاستقطاب الدولي، فضلاً عن انحسار دور الأمم المتحدة عن تسوية عديد من الصراعات باستثناء العمل الإنساني، تلك المتغيرات قد أوجدت لدى عديد من دول العالم توجهاً بشأن دعم منظمات العمل الجماعي التي يمكن من خلالها التعبير عن قضايا وهموم مشتركة بغض النظر عن كون تلك المنظمات ذات تأثير في القرارات الدولية من عدمه ومن بينها حركة عدم الانحياز التي أعلنت تأسيس شبكة برلمانية لتكون منتدى للنقاش واتخاذ قرارات، صحيح أنها لن تكون لها صفة الإلزام عالمياً ولكن تبقى أهميتها الرمزية لكونها تعد أكبر تجمع عالمي بعد الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومع الأخذ في الاعتبار توجهات الباحثين المهتمين بمستقبل تلك الحركة والتي تعكس توجهين الأول: يرى أن دول الحركة ليست سوى مجرد تجمع عددي لا تربطها أهداف مشتركة سوى بشكل مؤقت نتيجة الوضع الدولي الراهن الذي يشهد تحولاً غير معروف مداه ولكنه يتيح اتخاذ مواقف محايدة من جانب عديد من الدول الأمر الذي يعزز من الحركة وجاذبيتها مجدداً، والثاني: يرى أن ثمة فرصة سانحة أمام الحركة للنهوض مجدداً، وخاصة في ظل تشابه ظروف نشأتها مع بعض الظروف الراهنة، وإن لم تكن حرباً باردة فإنها صراع وتنافس ومحاولات استقطاب من جانب هذا الطرف أو ذاك ، وفي تقديري دون ترجيح رأي على الآخر فلكل وجاهته ، أن الاهتمام بالحركة يأتي ضمن توجهات الدول في مناطق مختلفة من العالم للانضواء في منظمات للعمل الجماعي أو بالأحرى تكتلات سواء أكانت اقتصادية أو أمنية وهو جزء من مؤشرات الصراع والتنافس العالمي، من ناحية ثانية فإن وجود أطر جماعية يمكن من خلالها دعم العديد من القضايا التي تعد مثار اهتمام وأولويات لدول العالم الثالث أو بالأحرى الدول الصغرى والمتوسطة والتي ربما لا تتسق مصالحها مع الدول الكبرى في المنظمات الدولية وهو ما تظهره مؤشرات التصويت على قضايا تلك الدول، من ناحية ثالثة فإن دعم بعض الدول لتلك الحركة مثل الهند والصين والبرازيل لتلك الحركة من شأنه أن يعزز من أهميتها ومستقبلها كإطار عمل جماعي لتلك الدول.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك