إن تفشي «وباء كورونا» عام 2020، أدى إلى حدوث اضطراب كبير في سلاسل التوريد العالمية، وأدى أيضا اندلاع «الحرب الأوكرانية»، في فبراير 2022، إلى تفاقم هذا الوضع. ومع كون الطرفان المتحاربان مُصدرين رئيسيين للمنتجات الزراعية إلى بقية العالم؛ فقد تسببت الآثار الاقتصادية للحرب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الرئيسية. وعليه، أضحت قضية تدهور الأمن الغذائي العالمي، لا سيما في أجزاء من آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا؛ موضع نقاش واهتمام كبير للمحللين والحكومات والوكالات الدولية على حد سواء.
وعندما تقترن تلك الأمور بالعوامل طويلة المدى التي تؤثر في الأمن الغذائي العالمي؛ مثل تغير المناخ، ونقص المياه، وانهيار البنية التحتية لسلاسل التوريد، والمنافسات الجيوسياسية، والركود الاقتصادي العالمي؛ فليس من المستغرب أن يحذر «تيم بينتون»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، من أن «الحالة الخطرة بالفعل لتوافر الغذاء والقدرة على تحمل الملايين التكلفة في أفقر بلدان العالم، يُمكن أن تزداد سوءًا خلال السنوات القادمة».
وبالنسبة إلى الشرق الأوسط، فقد رأت «أوليفيا لازارد»، من مؤسسة «كارنيغي للسلام الدولي»، أن المنطقة التي «تعتمد على الواردات الغذائية بشكل متزايد»؛ تشكل التهديدات المستمرة للأمن الغذائي العالمي، مصدر قلق لها ضد تعزيز الرخاء الاقتصادي والاستقرار. وأوضحت «كيتلين ويلش»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أن «روسيا وأوكرانيا، كانتا من الدول المصدرة الرئيسية للقمح إلى كل من السعودية، ومصر، وسلطنة عُمان، ولبنان، والأردن، وإيران».
وعلى المدى الطويل، يمثل استمرار الحرب «خطرًا كبيرًا»، على الأمن الغذائي لعديد من دول المنطقة، خاصةً إذا انهارت الآلية الهشة للسماح بصادرات الحبوب من الموانئ الأوكرانية، والتي تم تهديدها مرارا منذ تدشينها. وعند اقترانها بأزمة مناخية، ذات أنماط مناخية سيئة، وحالات جفاف، وعواصف رملية؛ تبدو التوقعات الخاصة بالأمن الغذائي في الشرق الأوسط، «أكثر قتامة»، مما هي عليه حاليا.
ولتقييم حالة الأمن الغذائي العالمي، أصدرت وحدة الاستخبارات الاقتصادية بـمجلة «الإيكونوميست»، في أبريل 2023، مؤشرها لعام 2022 -والذي يصدر سنويًا منذ عام 2012- ويقيم الأمن الغذائي في 113 دولة، مع إيلاء اهتمام خاص لمعايير القدرة على «تحمل تكاليف الغذاء، التوفر، الجودة والسلامة، الاستدامة والتكيف»، والذي اعترف بالتأثير الكبير «لفترة غير مسبوقة من الصدمات العالمية بين عامي 2020 و2022». وعليه، أصدر «تحذيرًا شديدا»، بشأن حالة الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، مع الاهتمام بإقليم «إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأجزاء من منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا».
وفي حين شهد المؤشر سابقًا ثماني سنوات من «النمو القوي»، في توسيع وتعزيز الأمن الغذائي العالمي في نتائجه من 2012 إلى 2020؛ فقد أشار إلى أنه في الوقت الحاضر «لا تزال «البيئة الغذائية العالمية» في طور التدهور، وسط «الارتفاع الجنوني للأسعار»، وتفشي الجوع على نطاق غير مسبوق». وعلى وجه الخصوص، هناك قلق بشأن «هشاشة» النظام الغذائي العالمي، وكيف يمكن لصدمة غير متوقعة أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وتذبذب استقرار السوق.
علاوة على ذلك، فإن «التقلبات في الإنتاج الزراعي، وندرة الموارد الطبيعية، وزيادة التفاوت الاقتصادي، وعدم اليقين في التجارة الدولية، وسلاسل التوريد»؛ تعتبر من العوامل المساهمة أيضًا في هذه الحالة. واستشهد «المؤشر»، بالنزاع المسلح، باعتباره عاملا «يؤثر سلبًا على البنية التحتية لسلسلة التوريد»، وهي نقطة انعكست في «سوريا»، التي شهدت أكبر انخفاض في العالم في درجة مؤشر الأمن الغذائي بين عامي 2012 و2022 (10.5 نقاط). وفي الوقت نفسه، تضمنت الآثار غير المباشرة لحرب أوكرانيا في جميع أنحاء العالم، في ارتفاع أسعار السلع، والأسمدة، والطاقة؛ ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة 30%.
وفي تصنيفاته لأكثر البلدان «أمانًا» من حيث الغذاء، تبوأت دول أوروبية؛ مثل «فنلندا، وأيرلندا، والنرويج، وفرنسا، وهولندا»، المراكز الخمسة الأولى، حيث حصلت كل منها على أكثر من (80/100). ومن بين أهم القوى السياسية في العالم، احتلت «المملكة المتحدة»، المرتبة التاسعة بنتيجة (78.8 /100)، وجاءت «الولايات المتحدة»، بالمركز 13 بنتيجة (78/100)، وحلت «الصين»، في المركز 25 في (74.2 /100)، وشغلت «روسيا»، المرتبة 43 بنتيجة (69.1 /100).
وفيما يتعلق بدول الخليج، جاءت «الإمارات»، في المرتبة «23»، على القائمة العالمية، بنتيجة (75.2 /100)، تلتها «قطر» (المرتبة30 بـنتيجة 72.4 /100)، و«سلطنة عُمان» (المرتبة 35 بـ 71.2 /100)، و«البحرين» (المرتبة 38 بـ 70.3 /100)، و«السعودية»، (المرتبة 41 بـ 69.9 /100)، و«الكويت» (المرتبة 50 بـ 65.2 /100). وعلى الرغم من كونها مستوردة بشكل كبير لاحتياجاتها الغذائية والسلع؛ فإن هذه الدول، تقع جميعها ضمن أفضل 50 دولة في العالم للأمن الغذائي العالمي، وعلى هذا النحو، فهي تسبق في المؤشر دولا، مثل البرازيل المرتبة (51)، والأرجنتين (54)، وجنوب إفريقيا (59)، وإندونيسيا (63)، والهند (68)، ونيجيريا (107).
ولتفسير ذلك، يجب الإشارة إلى الكيفية التي قامت بها دول الخليج بشكل جماعي، بإجراء تحسينات كبرى في مستويات الأمن الغذائي الخاصة بها. وخلال العقد الماضي، كانت النتائج الإيجابية التي حققتها «عمان»، والتي بلغت (13.8 نقطة)، بين عامي 2012 و2022؛ هي الأفضل على مستوى العالم. كما تم إجراء تحسينات مماثلة من قبل الإمارات (12 نقطة)، والسعودية (11.8 نقطة)، والبحرين (5.6 نقاط)، وقطر (2.5 نقطة)، فيما كان هناك انخفاض في الدرجة التي أحرزتها الكويت، بمقدار (0.5 نقطة)، خلال نفس الفترة.
وفي تصنيف «الإيكونوميست»، لنتائج كل دولة، حصلت «البحرين»، على أعلى الدرجات في القدرة على تحمل التكاليف السلعية (91.3 /100- أي ما يعادل 11 عالميًا)، ومعايير الجودة والأمن الغذائي (76.3 / 100- 32 عالميًا)، فيما حصلت على درجات أقل في معيار توافر وإتاحة الغذاء (60.1 / 100- 52 عالميًا)، ومعايير الاستدامة والتكيف مع نوع الغذاء (47.3 / 100 - 78 عالميًا). وفيما يتعلق بالقدرة على تحمل التكاليف السلعية، تمت الإشادة بـ«حرية التجارة» في المملكة، و«تمويل برامج شبكات الأمن الغذائي»، لاسيما مع إحرازها (83/100)، و(100/100)، وهو أعلى بكثير من المتوسطات العالمية البالغة (71.3/ 100 )، و(57.5 / 100) بالنسبة إلى كل معيار على التوالي.
وبالنسبة إلى باقي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، احتلت إسرائيل المرتبة الـ(24)، والأردن الـ(47)، وتركيا الـ(49)، والمغرب الـ(57)، وتونس الـ(62)، والجزائر الـ(68)، ومصر الـ(77). وجاءت اليمن في المرتبة الـ(111)، وسوريا الـ(113) في ذيل الترتيب العالمي، وهو ما يعكس تحليل مجلة «إيكونوميست»، أن وجود النزاعات المسلحة، يعيق حالة الأمن الغذائي بشكل كبير.
في حين تتصدر كل من «أمريكا الشمالية»، و«أوروبا»، قمة المؤشر، حيث تتصدران العالم، بإجمالي متوسط الدرجات عند (78.6 و 74.8 / 100) على التوالي. فيما اقتربت دول آسيا، وأمريكا اللاتينية من مستوى (63.4 /100)، بينما تكاد تقترب نتائج دول منطقة الشرق الأوسط من (63/100)، متقدمة بذلك على المتوسط العالمي (62.2/100)، وهو رقم متأثر بمؤشرات الأمن الغذائي المتدنية للدول الإفريقية (47/100).
ووفقًا لما ذكرته «لازارد»، فإن مخاوف منطقة الشرق الأوسط، فيما يتعلق بالحالة المستقبلية للأمن الغذائي، ترتبط «ارتباطًا وثيقًا» بالعوامل المناخية. وعلى وجه الخصوص، أشارت إلى أن «تدهور حالة توفر المياه»، قد جعل المنطقة بالفعل «أكثر مناطق العالم انعدامًا للأمن المائي»، حيث من المرجح أن «يتفاقم فقر المياه للفرد» في «عديد من بلدان المنطقة، ما لم يتم تقديم طرق وسبل تعاون متعددة الأبعاد».
وبالتالي، حذرت من أن تذبذب الأمن المائي، سيؤثر «حتمًا»، على الأمن الغذائي للمنطقة العربية «على المستويين الوطني والجماعي»، وكذلك «بطريقة مباشرة وغير مباشرة»، مشيرة إلى أن عدم قدرة التربة في المنطقة على الاحتفاظ بالمياه، سيعني انخفاض حصيلة الإنتاج الزراعي، وهو ما سيكون له «آثاره الضارة في أولئك الذين يعتمدون على الزراعة لكسب عيشهم وقدرتهم على الصمود الاجتماعي».
وعلى الرغم من أن «ويلش»، أشارت إلى أن دول الخليج، «نجت حتى الآن من آثار الحرب الروسية على السوق الزراعية الأوكرانية»، حيث تواصل المنطقة استيراد «ما يصل إلى 90% من المواد الغذائية، بما في ذلك من البحر الأسود»، فقد سلطت الضوء على أهمية توصيات المحللين بأن هذه الدول مازالت «تشجع الإنتاج الزراعي المحلي، والاستثمار في الشركات الزراعية، وبناء احتياطياتها الغذائية، والمحافظة عليها لدرء آثار الأزمات المستقبلية».
وفيما يتعلق بالتوقعات المستقبلية قصيرة وطويلة الأجل للأمن الغذائي العالمي على المستوى العالمي، من المتوقع أن تصبح الصدمات السياسية والاقتصادية العالمية «أكثر تواترًا». وحذرت «الإيكونوميست»، من أن الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، سيتعرض «لتهديد متزايد». إلى جانب ذلك، رأت أن العوامل البيئية والآثار المتفاقمة لتغير المناخ، «تهدد بخفض» التوافر، والقدرة على تحمل التكاليف والجودة والاستدامة للأمن الغذائي بشكل أكبر.
ولمعالجة هذه القضايا، أوصى «التقرير»، بأن الحكومات والشركات المعنية «بحاجة إلى اعتماد نهج منهجي وبناء سقف من المرونة في إمدادات الغذاء»، والتي يمكن تحقيقها جزئيًا من خلال تبسيط إدارة سلاسل التوريد ومراقبة المخزون. كما تم تأكيد الكيفية التي ستحتاج بها البلدان إلى التصرف بشكل استباقي، بدلاً من ردود الفعل تجاه مخاوف استدامة الغذاء.
ومع ذلك، شدد «المؤشر»، أيضًا على أنه «لا يمكن أن يكون هناك حل شامل لتعزيز مرونة النظام الغذائي» في جميع أنحاء العالم، وأنه يجب تقدير حجم السياقات، والمواقف، والأوضاع المختلفة من قبل صانعي السياسات، والخبراء لحالة الأمن الغذائي، التي قد تطلب «مزيجا من القوة والتعافي تارة، وإعادة التوجيه وإعادة التنظيم تارة أخرى».
وبالإضافة إلى ضرورة الاستعانة بصياغة سياسيات جديدة، فقد تمت الإشارة إلى أن الابتكار يعد «ضروريًا»، لتعزيز الأمن الغذائي العالمي في المستقبل. ولا يقتصر ذلك فقط على تبني الاتجاهات التكنولوجية الجديدة، مثل التقنيات النانوية، والرقمية لمساعدة المزارعين على تعظيم مخرجات المحاصيل، وتجنب الإخفاقات، ولكن أيضًا الاستفادة من فرص التكنولوجيا المتقدمة لتعزيز التعاون دوليًا، وتبسيط الإجراءات المنظمة لمهام المعاهد والوكالات ومنظمات المعونة الإنسانية والحكومات وغيرها.
ولجعل هذه التوصية الأخيرة حقيقة واقعة، أصر مؤشر الأمن الغذائي العالمي على حاجة أصحاب المصلحة إلى إظهار «الإرادة السياسية» اللازمة والاستفادة من ذلك من خلال إسهامات القطاع الخاص في تعزيز الاقتصاد العالمي.
على العموم، تبدو النظرة المستقبلية للمؤشر «قاتمة»، لاسيما في ظل التحذيرات من حدوث مزيد من التدهور في الأمن الغذائي خلال السنوات المقبلة. وعلى الرغم من أن الابتكار التكنولوجي يوفر آفاقًا لزيادة الإنتاج الزراعي، وتسهيل إدارة سلاسل التوريد؛ فإن المخاطر المقترنة بالنزاعات المسلحة والمنافسة الجيوسياسية، وتداعيات تغير المناخ، هي أمور ملحة لم يتخذ المجتمع الدولي بعد إجراءات فعالة لتهدئة وتيرتها، وبالتالي فإن تفاقمها يثير مخاوف تتعلق بالأمن الغذائي لأفقر دول العالم.
وفي الشرق الأوسط أيضًا، نجد أنه بينما سجل المؤشر «نتائج قوية»، ومتقدمة لدول الخليج؛ فإن الصورة بالنسبة إلى بقية المنطقة أقل أمانًا بكثير، وهو ما يعكس تحذيرات «ويلش»، بأنه «في السنوات القادمة، سيستمر الصراع، وحالة تغير المناخ، وعوامل أخرى في تقليص الإنتاج الزراعي، وتقييد استيراد الغذاء لعديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك