كتب جدي في أوراقه الصفراء..
إنه في زمن التحولات النفطية في المنطقة، وفي فترة تحول البيوت من المنازل الخشبية والسعف إلى البيوت المصنوعة من الطين والحصى، كان هناك بنّاء اسمه (عبدالله)، وكان هذا البنّاء متقنا عمله إلى درجة قوية، إذ كان كبار تجار المنطقة يطلبونه بين حين وآخر لبناء منازلهم الجديدة أو إضافة غرف إلى منازلهم الكبيرة القديمة، فكان عمله يقارب الكمال في كثير من الأحيان.
وأما هو وأسرته فقد كانوا يسكنون في منزل من السعف في أطراف الحي القديم الذي ينتمي إليه.
وعندما كبر في السن وبدأ جسمه يُوهن، شعر بأنه آن الأوان ليتقاعد ويهدأ ويستريح مع أولاده وأسرته، وخاصة أن أولاده كبروا وبدأوا يعملون في الدوائر الحكومية التي أنشأتها الحكومة مؤخرًا، فكان يسأل نفسه: ما الداعي إلى العمل أكثر؟
سمع كبير التجار ما عزم عليه (عبدالله)، فاستدعاه، وطلب منه ألا يتقاعد وقال له: إنه في الفترة القادمة سيتوسع عملك، وربما تصبح مقاولا كبيرًا، وخاصة إن المنطقة مقبلة على التغيير والتطور، وحتى إن شئت يمكن أن نعمل أنا وأنت شركة مقاولات تقوم أنت بإدارتها والعمل فيها، وأنا أعطيك رأس المال.
شكر عبدالله مبادرة كبير التجار، ولكنه اعتذر لأنه عزم أمره وقطع عهدًا لأسرته وأولاده أنه سيترك العمل ويستريح.
وبعد عدة محاولات من كبير التجار، وجد أنه من المستحيل إقناع عبدالله والعدول عن رأيه، فقال له: لي رجاء واحد وأخير وبعدها يمكنك الرحيل.
فقال عبدالله: ما هو؟
كبير التجار: أريدك أن تبني لي منزلاً وسيكون هذا آخر عمل لك، وبعد الانتهاء منه، يمكنك الرحيل.
وافق عبدالله على مضض، إلا أنه شرع في العمل من اليوم التالي، ولعلمه أن هذا البيت سيكون الأخير فلم يحسن صنعه، فاستخدم المواد الرديئة، ولم يعمل بكل إبداعاته وقدراته ومهاراته التي يعرفها في بناء البيوت، وإنما كان يحاول أن ينهي البيت بأسرع ما يمكن وبأي طريقة كانت، حتى إن العمال – في بعض الأحيان– كانوا يحاولون أن ينبهوا عبدالله للأخطاء التي يرتكبها إلا أنه لم يهتم.
وأنهى بناء البيت بأسرع ما يمكن، حتى يتفرغ للتقاعد، وبعد الانتهاء من البيت ذهب إلى كبير التجار، فسلمه المفتاح، وطلب منه بكل أدب واحترام أن يرحل الآن.
إلا أن كبير التجار طلب منه أن يصحبه إلى المنزل الجديد، وأن يشرح له المرافق وكل ما في المنزل.
فذهبا إلى المنزل الجديد، وفتح عبدالله الباب وقام بشرح المنزل وتفصيلاته، وكان كبير التجار يقف مذهولاً من تلك القدرات والإمكانيات في بناء البيت، وهو لا يعلم خفايا ونواقص المنزل، إذ كان عبدالله يحاول أن يخفي العيوب والنواقص التي في المنزل والتي تجاهلها هو، وعندما انتهى حاول أن يغادر، إلا أن كبير التجار استوقفه وقال له: «خذ المفتاح، فهذا المنزل هديتي لك نظير كل سنوات الخدمة التي قدمتها في المنطقة، أرجو أن تتقبلها مني»، ثم غادر.
وقف البنّاء العجوز المبدع في وسط المنزل، صعقًا مبهورًا لا يصدق ما سمع، ولكن خلخلة المفاتيح بين يديه جعلته يعيد النظر في كل حياته، أصبحت حياته المهنية كشريط سينمائي يتحرك أمام ناظريه، لا يرى من خلاله أي شيء، فسأل نفسه: ماذا فعلت في نهاية حياتي؟ لماذا أهملت؟ أنا لم أكن هكذا؟ فلماذا عندما بلغت النهاية لم أتقن عملي؟ ما الفرق بين البدايات والنهايات؟
وتنتهي قصة جدي عند هذا الحد، إلا أنه في نهاية القصة يذكر الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، صحيح الجامع.
ثم يسأل جدي هذا السؤال: ترى لماذا تناسى أو تجاهل البنّاء العجوز هذا المبدأ المهم؟
وتنتهي أوراق جدي عند هذا الحد، عندها ذهبت أتساءل وأبحث في موضوع الإتقان، فوجدت أن مصطلح (الإتقان) هو نفسه أو شبيه مصطلح (الجودة)، إلا إننا –وللأسف – رغبة في التقليد بالغرب نحاول أن نستعيض مصطلحاتنا العربية الأصلية ببعض المصطلحات الغربية، وذلك حتى لا يتهمنا المثقفون الغرب أننا متخلفون، عمومًا هذا ليس موضوعنا.
والإتقان في اللغة يعني؛ أتقن الشيء بمعنى أحكمه، وأحسن صنعه وفعله بأحسن صورة، والإتقان هو إحكام الأشياء. وأما اصطلاحًا؛ فهو القيام بالعمل الموكل للشخص على أحسن وجه وإجادته بالصورة المطلوبة والكاملة من غير نقصان.
وكذلك يعرف إتقان العمل على أنه أداء المهمة المطلوبة من دون أي خلل بدقة ومهارة وإخلاص، والالتزام بالمتطلبات والتقيد بالضوابط المتعلقة باستعمال تقنيات معينة، مع الحرص على القيام به في الوقت المحدد مسبقًا ومن دون تأخير، والتفكير بتطوير العمل لاحقًا لمستويات أفضل.
ووجدنا أن ما يساعد على إتقان العمل والأمور كلها في الحياة خمسة أمور أساسية، وهي التي تهمنا، وهي:
{ إخلاص النية لله تعالى، والبعد عن الرياء في القول والعمل ومراقبة الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة.
{ معرفة العمل الذي نقوم به، وبكل تفاصيله.
{ عدم التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى الغد وإنجاز العمل أولا بأول.
{ استغلال الوقت وفهم إدارته بالشكل السليم.
{ تقديم الأهم على المهم وتطبيق، ومعرفة فقه الأولويات في العمل.
والآن، دعونا نعيد قراءة قصة البنّاء عبدالله، فهل أتقن عمله؟ وهل توفرت فيه هذه النقاط؟ أترك لكم الإجابة عن هذا التساؤل.
وأنا أكتب هذا المقال وأعبث بأوراق جدي الصفراء، خطر على بالي الحديث النبوي الشريف، الذي ينص على ما قَالَه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْ»، البخاري وأحمد.
يمكن أن يلاحظ أن هذا الحديث النبوي الشريف له علاقة بموضوع إتقان العمل وخواتيم الأعمال واستدامتها بصورة كبيرة، وهو مرشد إداري عالي المستوى، فالقضية هنا ليس مجرد زرع نخلة في لحظات الإنسان الأخيرة فقط، وإنما هي إتمام العمل واتقانه مهما كانت مجريات الأمور التي تدور حولك، حتى وإن كانت الدنيا كلها ستنتهي.
ماذا يعني هذا الحديث النبوي الشريف؟ وإلى ماذا يرمي؟
تصور إنه في لحظة انفجارات الكرة الأرضية، وتدهور الجبال وتهدمها، وانتشار الزلازل الضخمة التي ليس لها قياس على مقياس ريختر، وانفجار البراكين، والشمس ارتفعت درجة حرارتها حتى وأنها من مكانها أصبحت تحرق الأرض، يقول تعالى في سورة الانفطار – الآية 5 (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، وفي لحظات أهوال يوم القيامة في تلك اللحظات حين تُختم الحياة، وتُقطع أنفاس البشرية، ويعلم حينها الإنسان أن النهاية قد أزفت، في تلك اللحظة يطلب منك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز على خواتيم أعمالك وأن تتقن العمل الذي تقوم به.
هل نتصور ماذا يعني ذلك؟ نحن نعلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يعلم أن نفسية الإنسان وحتى جسده وقوته لن تساعداه حتى يكمل غرس فسيلته، ثم ماذا يمكن أن تصنع فسيلتي أمام كل هذه التغيرات والأهوال التي تحدث؟
ولكن هذا هو الإتقان والاهتمام بخواتيم الأعمال، وهذه هي الجودة والتنمية المستدامة كما تسمى اليوم.
والآن لننظر حولنا، كثير من المبدعين والمفكرين قبعوا في الظل، وذلك بسبب أن أهل الصخب طفحوا على السطح، تجد أهل الصخب في كل مكان وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تجدهم يرقصون ويغنون ويحتفلون غير آبهين بأي قيم أو مبادئ، ويمكن في لحظات أن يقوموا بتغيير جلدهم، فتارة يصفقون لهذا وبعدها بهنية يتغيرون ويصفقون للنقيض، لأنهم أهل صخب فهم يعيشون من غير مبادئ وقيم. ولكن أهل الإبداع والقيم والمبادئ في هذا العصر يعيشون في الظل، وربما تراهم بين حين وآخر يطلون برؤوسهم لمحاولة إثبات وجودهم إلا أنهم في لحظات يكتشفون أنه من الأفضل العودة إلى الظل، فالكثير مما يقدم لا يندرج تحت قائمة الإبداع أو الإتقان أو الاستدامة.
وهكذا فكرة البنّاء عبدالله عندما كُلف ببناء المنزل الأخير، لم يفكر في الإبداع أو الإتقان أو الاستدامة، وإنما فكر في اللحظة التي سيخرج فيها للتقاعد، في اللحظة التي سيترك العمل من غير رجعة، فكر في نفسه فقط، لم يفكر بعقلية الاستدامة والإتقان، فمن فرط حماسه للخروج لم يزرع فسيلته بطريقة متقنة، وإنما وضعها بأي طريقة كانت، فكانت النتيجة مخيبة له ولتفكيره، فهو لم يعتقد في لحظة أن كل خير سنوات العمر وكل هذا الإتقان والإبداع يمكن أن يخدماه، فخسر استدامة البيت الذي من المفروض أن يكون ملكه.
فهل لنا أن نفكر فيما قاله جدي في أوراقه الصفراء؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك