فيما تجري الولايات المتحدة لاهثة وراء الصين لاستعادة المبادرة في أجزاء كثيرة من العالم، تبدو أوروبا عاجزة عن استعادة الدور الذي كانت قد وعدت به نفسها يوم ظهر الاتحاد الأوروبي قوة فتية تأمل في أن تعيد إلى العالم توازنه في ظل حرب باردة بين قوتين متناحرتين تتنافسان على الريادة في المجال العسكري بكل تشعباته.
لم يكن أحد يتوقع أن تغطس أوروبا في أوحال، هي ليست من صنعها. مناطق كان العالم المعاصر قد غادرها بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي وغاب الخطر الشيوعي وصعدت الصين اقتصاديا إلى القمة فيما ظلت شيوعيتها شأنا داخليا ليس في إمكان أحد أن يلهو به أو يقترب من خطوطه الحمراء، فالصين التي لم تعد مجرد قوة صاعدة اقتصاديا لا تقبل المزاح.
على العكس من ذلك تحولت أوروبا إلى آلة حرب تتحكم بها الولايات المتحدة وتحركها عن بعد وهو ما ألقى بظلال كئيبة على مستوى العيش فيها.
فالحرب التي يقف حلف الناتو وراء إشعالها في أوكرانيا هي حرب أمريكية مئة بالمئة لا مصلحة لروسيا في نشوبها أو استمرارها. وهي أيضا ليست حرب أوروبا التي انزلقت إليها تدريجيا كما لو أنها تدافع عن نفسها وهو أمر ليس حقيقيا.
ذلك لأن روسيا لا تملك مشروعا لاستفزاز أوروبا. العكس هو الصحيح. روسيا لا تجد في قيام الاتحاد الأوروبي وتماسكه وقوته ما يهددها إذا لم يكن تابعا للولايات المتحدة في سياساتها المعادية التي تهدف إلى استضعاف روسيا.
في المقابل فإن الولايات المتحدة لا ترغب في أن يكون الاتحاد الأوروبي قويا ومتماسكا بدليل أنها الدولة الكبرى الوحيدة التي شجعت بريطانيا على الانفصال عنه.
الولايات المتحدة لا ترتاح إلى تعدد الأقطاب الدولية وهي في قمة انزعاجها لأنها مضطرة إلى الدخول في حرب من نوع جديد مع الصين. حرب ليس للعقائد مكان فيها ولا يديرها العسكر، بل رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى. وهي حرب قد لا تكون مؤهلة للانتصار فيها.
وإذا ما كانت الصين قد اتخذت من تفوقها الاقتصادي غطاء لتمددها من خلال مشاريع سلمية تدخل في نطاق الأمن العالمي كما هو الحال في الاتفاق السعودي – الإيران الذي يمكن اعتباره جزءا من طريق الحرير فإن الولايات المتحدة عاجزة عن الوصول بحلفائها الأوروبيين إلى لحظة سلام، يلتفتون من خلالها إلى مشاريع التنمية البشرية والاقتصادية. ما فعلته الولايات المتحدة أنها دفعت بالأمن في أوروبا إلى منزلق خطير، بات يهدد سلامة اتحادها وتماسكه وسبل العيش فيه.
ليست أوروبا في وضع سليم. ليس لأن بعض الدول مدت أصابعها إلى نار أوكرانيا وحسب، بل وأيضا لأنها لم تعد تفكر بطريقة علانية تضمن لها سلاما داخليا مستداما.
فضريبة المشاركة في الحرب الأوكرانية، التي هي حرب عبثية عالية جدا، قد لا يستمر الأوروبيون في التزام جانب الصمت عليها. كما أن حقيقة تلك الحرب التي يدرك الكثير منهم أنها تصب في مصلحة الشعب الأمريكي وتضر بالمصالح الأوروبية قد تؤدي إلى ألا يثق الأوروبيون بضرورة أن يكون لاتحادهم وجود. لقد صار مجرد منصة أمريكية يتم الجدل من خلالها مع روسيا.
أوروبا الموحدة هي اقتصاد كبير وحيوية خلق وإبداع وابتكار في مختلف المجالات وهو ما كان على سياسييها أن ينظروا إليه قبل أن يؤكدوا ارتباطهم بسياسة الولايات المتحدة عن طريق التعهد باستعادة زمن الحرب الباردة تعويضا عن فشل مواجهة الصين.
وإذا نجح ذلك الرهان أو فشل فإن أوروبا ستخرج منه خاسرة. فما الذي تستفيده أوروبا من إنهاك روسيا ودفعها إلى التفكير بلحظة الصفر التي هي بداية للدمار الشامل الذي قد يكون مجازيا؟
استضعاف روسيا يتم الآن من خلال استضعاف أوروبا. ولأن أوروبا بالنسبة إلى العالم تمثل الجوهر الأخلاقي فإن سقوطها في وحل السياسة الأمريكية إنما ينزع عنها طابعها الأخلاقي الذي هو بالنسبة إلى العالم منجم تصدر عنه كل القيم المعاصرة. أوروبا هي عصرنا الحديث.
لا يمكن اختزال الأمر بدبابة ألمانية أو مدفع فرنسي أو طائرة مسيرة مجهولة الهوية. لقد فقدت أوروبا هويتها في الامتحان الأوكراني وهو ما قد يشكل عنصرَ تهديد لبقاء الاتحاد الأوروبي وهو أكثر خطرا من انفصال بريطانيا عنه.
لذلك يمكن القول إن أوروبا إذا ما استمرت بطريقتها في إدارة حرب أوكرانيا فستفقد أعز ما لديها وهو اتحادها.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك