يركز بعض النواب دائما في مناقشاتهم مع السلطة التنفيذية وفي المقترحات التي يقدمونها في مجلس النواب على كيفية رفع مستوى المعيشة للمواطن من الناحية الاقتصادية المالية البحتة، من حيث رفع الرواتب، أو زيادة العلاوات، أو خفض الضرائب وغيرها من الأدوات والوسائل التي تزيد من دخل المواطن وراتبه الشهري.
ولكن في الوقت نفسه رفع مستوى معيشة المواطن، أو تحسين نوعية حياته لا تعني في تقديري فقط الناحية الاقتصادية، فهناك مناحٍ وجوانب أخرى ربما تكون أفضل من الجانب المالي، وأكثر استدامة وتطويرا وتحسينا لحياته ومعيشته على المدى البعيد، وبالأخص هنا الجانب الصحي البيئي، وتحسين نوعية عناصر البيئة التي يعيش فيها الإنسان ويتعرض لها كل ثانية من حياته.
فعندما يعيش الإنسان في بيئة صحية ونظيفة فإن ذلك ينعكس مباشرة على نوعية حياته ومستوى المعيشة التي يعيش فيها، فاستنشاق الهواء الصحي النقي الخالي من الشوائب والملوثات المسببة للأمراض والأسقام الحادة والمزمنة تُنمي من حياة الإنسان، وتحسن وتطور من جودة ومستوى معيشته، فيطول عمره، ويكون دائما صحيح الجسد والنفس، فلا يحتاج إلى صرف ماله وإنفاقه على علاج أمراضه في الحالات والظروف التي يكون فيها الهواء مشبعا بالملوثات، كذلك الحال بالنسبة إلى شرب المياه الصافية والعذب الزلال التي تنزل بردا وسلاما على جسده بدلاً من المياه مرتفعة الملوحة، أو التي تدخل فيها الملوثات التي تُعكر معيشته وصفاء حياته، وتُنزل من مستوى راحته ونوعية معيشته وتعرضه للأمراض المكلفة ماليا.
لذلك فالتركيز فقط على الجانب المادي الاقتصادي لا يكون مجدياً في رفع مستوى معيشة المواطن «الكلية»، وتحسين نوعية حياته الإجمالية في جميع جوانبها، فالمال الذي سيحصل عليه سيضطر المواطن إلى إنفاقه لعلاج علله وأسقامه إذا لم نركز في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه من الاهتمام والتشديد على أن يكون الهواء الذي نستنشقه كل ثانية من حياتنا مُعيناً على رفع مستوى معيشتنا الجسدية والنفسية والعقلية، وداعماً لتحسين كل جوانب أمننا الصحي.
وهناك الكثير من الدراسات والتقارير التي نَشرتْها منظمات الأمم المتحدة المختلفة، إضافة إلى أبحاث الجامعات والمعاهد العلمية التي تقدم الدليل الدامغ والشافي حول الجوانب الاقتصادية لتلوث الهواء في كل دول العالم، ودوره السلبي الفاعل والكبير في خفض وتدهور مستوى ونوعية معيشتنا، أو بعبارة أخرى الكلفة المالية النقدية الباهظة للهواء الملوث، وكم سينفق ويدفع الإنسان على المستوى الفردي والحكومي إذا تعرض سنوات طويلة من حياته إلى الهواء الملوث، وعاش في بيئة تعاني من فساد الهواء، وتلوث المياه، وتلف التربة.
فعلى سبيل المثال، هناك تقرير البنك الدولي المنشور في 31 يناير 2022 تحت عنوان: «الكلفة الصحية الدولية لتلوث الهواء من الجسيمات الدقيقة: حالة لاتخاذ الإجراء بعد 2021»، حيث قدَّر التقرير الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تدهور نوعية الهواء في العالم بنحو 8.1 تريليونات دولار، أو ما يعادل 6.1% من «الناتج المحلي الإجمالي» (جي دي بي) العالمي. وهذا التقرير استند على عدة دراسات علمية حول الجوانب الصحية لتلوث الهواء، ففي عام 2000 كان عدد البشر الذين قضوا نحبهم بسبب التلوث قرابة 3.8 ملايين، ثم تضاعف العدد إلى 6.4 ملايين في عام 2019، وفي عام 2022 ارتفع عدد الوفيات إلى 9 ملايين، أي واحد من كل 6 من البشر يموت بسبب التعرض لتلوث الهواء، بحسب التقرير المنشور في 17 مايو 2022 في مجلة «اللانست» (The Lancet Planetary Health).
كذلك نُشرت دراسة على المستوى الدولي في مجلة «البيئة العالمية» (Environment International) في 16 يونيو 2021، حيث قدَّمت تحليلاً وتقييما بيئيا وصحيا واقتصاديا للتعرض لتلوث الهواء أثناء قيادة السيارة في عشر مدن حول العالم، وبالتحديد بالنسبة إلى الدخان. ومن هذه المدن دكا في بنجلادش، والسليمانية في العراق، ودار السلام في تنزانيا، وأديس أبابا في إثيوبيا، والقاهرة، وسان باولو في البرازيل، حيث أكدت الكلفة العالية الناجمة عن التعرض للملوثات، ففي القاهرة بلغت الخسائر الاقتصادية زهاء 8.9 ملايين دولار، وفي دار السلام 10.2 ملايين.
كما نَشرتْ مجلة «الغلاف الجوي» (Atmosphere) في 18 نوفمبر 2020 بحثا تحت عنوان: «صحة الإنسان والكلفة الاقتصادية لتلوث الهواء في ولاية يوتاه الأمريكية»، حيث أفادت الدراسة بأن تلوث الهواء يسبب ما يتراوح بين 2480 إلى 8000 وفاة مبكرة سنوياً، ويخفض من مستوى حياة الإنسان من 1.1 سنة إلى 3.6 سنوات، كما قدَّرت الدراسة الكلفة الاقتصادية الإجمالية لتلوث الهواء بما تتراوح بين 0.75 إلى 3.3 بلايين دولار، أي نحو 1.7% من «الناتج المحلي الإجمالي» للولاية.
وعلاوة على ذلك، فقد نشرتْ «المجلة العالمية للأبحاث البيئة والصحة العامة» (International Journal on Environmental Research and Public Health)» دراسة في السابع من فبراير 2023 تحت عنوان: «تأثيرات تلوث الهواء على الصحة وكلفة الأمراض في جاكرتا، إندونيسيا». وقد توصلت الدراسة إلى نتيجة عامة بأن الكلفة الإجمالية للتداعيات الصحية الناجمة عن فساد الهواء الجوي في جاكرتا قرابة 2943 مليون دولار أمريكي، في حين أن تقرير البنك الدولي المنشور عام 2019 أشار إلى أن تلوث الهواء يكلف إندونيسيا سنوياً 220 بليون دولار، أي 6.6% من جي دي بي للدولة برمتها.
وفي الهند نُشرتْ دراسة في أبريل 2020 في المجلة الدولية لعلم الأوبئة تحت عنوان: «مخاطر العدوى التنفسية الحادة الناجمة عن حرق المحاصيل في الهند: تقدير عبء المرض والرفاه الاقتصادي من بيانات الدراسات الاستقصائية الصحية والأقمار الصناعية والوطنية لـ 250 ألف شخص، حيث توصلت الدراسة إلى أن الخسائر الاقتصادية لتلوث الهواء على مدى خمس سنوات تُقدر بنحو 1.5 بليون دولار».
وختاماً فإننا عند اهتمامنا بجودة الهواء والماء والتربة سنضرب عدة عصافير بحجرٍ واحد، وهذا الاهتمام له تداعيات إيجابية طويلة المدى على جيب الفرد والمجتمع وميزانية الدولة، كما أنه يصب في سياسة التنمية البشرية المستدامة المعلنة للحكومة، وهي أن يعيش الإنسان حياة مستدامة كريمة وطيبة من خلال رفع المستوى المعيشي الإجمالي، بيئياً واقتصادياً واجتماعياً، فهذه السياسة سترفع من المستوى المعيشي ونوعية الحياة التي يعيشها المواطن من الناحية الاقتصادية، جنبا إلى جنب مع الناحيتين البيئية والاجتماعية.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك