سادت في العالم العربي خلال الشهور الأخيرة أجواء من التفاؤل باحتمال دخول المنطقة مرحلة تهدئة للصراعات المحتدمة بين دولها وشعوبها؛ توطئة لمعالجة هذه الصراعات من جذورها، وتهيئة المنطقة للتمتع بحالة من الاستقرار القابل للدوام. عاملان رئيسيان بررا هذه الحالة التفاؤلية وساعدا على انتشارها:
أولاً: الجهود الناجحة التي بذلت لتهدئة الصراعات العربية-العربية، وهي جهود حظيت بقوة دفع كبيرة عقب نجاح قمة العلا الخليجية التي انعقدت في بداية 2021، ما أعاد قدراً من التماسك إلى مجلس التعاون الخليجي أولاً، ثم إلى جامعة الدول العربية التي أصبحت أجواء العمل فيها مهيأة أكثر لانعقاد القمم العربية بعد فترة توقف كاد أن يصيبها بالشلل. ثم، تواصلت هذه الجهود إلى أن وصلت ذروتها بانفتاح دول عربية عديدة على سوريا وصولا إلى صدور قرار عودتها إلى الجامعة العربية بعد غياب 12 عاما، وأصبح من المرجح دعوتها إلى المشاركة في القمة العربية المقرر عقدها في الرياض خلال مايو الجاري، ما أعاد إحياء الأمل في إمكانية إعادة تنشيط العمل العربي المشترك من جديد، وخاصة أن المحور السعودي – المصري، المؤهل أكثر من غيره لقيادة النظام الإقليمي العربي الرسمي وتفعيله، بات أكثر استعداداً وقابلية للحركة.
ثانياً: الجهود الناجحة التي بذلت لتهدئة الصراعات العربية-الإيرانية، من ناحية، والصراعات العربية-التركية، من ناحية أخرى. فالجهود التي بذلت لتهدئة الصراعات مع إيران حظيت بقوة دفع كبيرة عقب قرار الصين الدخول على خط الأزمة بينهما ونجحت في استضافة مؤتمر في بكين، عقد في 10 أبريل الماضي، الأمر الذي خلق على الفور أجواء مواتية لتهدئة حدة الصراعات المشتعلة في مناطق مختلفة من العالم العربي، شملت اليمن وسوريا والعراق ولبنان وغيرها.
أما الجهود التي بذلت لتهدئة الصراعات مع تركيا فقد حظيت بقوة دفع كبيرة عقب نجاح الجهود التركية الرامية إلى تصفير صراعاتها مع دول المنطقة، خاصة حين أسفرت هذه الجهود عن تبادل الزيارات بين وزيري خارجية مصر وتركيا، الأمر الذي أثمر على الفور عن تهدئة عدد من الصراعات الأخرى المشتعلة في المنطقة، خاصة في شرق البحر المتوسط وليبيا وسوريا وغيرها.
هذه الأجواء التصالحية، والتي لم تكن قد أتت كل أكلها بعد، أصبحت الآن مهددة بالتوقف في محطة السودان؛ بسبب اشتعال صراع مسلح خطير بين القائد العام للجيش السوداني، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، من ناحية، وقائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، من ناحية أخرى، قد يؤدي إلى كارثة كبرى ليس لشعب السودان فحسب وإنما للعالم العربي بأسره، وخاصة أنه صراع مرشح للتصعيد على نحو قد يفضي في نهاية المطاف إلى تفكك السودان إلى عدة دويلات أخرى، بعد انفصال الجنوب عنه في مرحلة سابقة، وهو ما لا يستطيع العالم العربي أن يحتمله في ظروفه الهشة الراهنة.
فهذا الصراع المستحدث، والذي يبدو في ظاهره صراعاً على السلطة بين قيادتين عسكريتين تحركهما طموحات ومطامع شخصية، يخفي وراءه صراعات تاريخية أكثر عمقاً بين قوى السودان المدنية وقواته العسكرية من ناحية، وداخل صفوف القوى المدنية نفسها، وبين القوى العلمانية وقوى الإسلام السياسي خاصة بين القوى التقليدية والقوى الحداثية من ناحية أخرى، بالإضافة إلى صراع جهوي وقبلي بين قوى انفصالية تحمل السلاح في وجه الدولة وقوى وحدوية يجسدها الجيش الوطني السوداني من ناحية ثالثة.
ولأن السودان دولة متعددة الأعراق والقوميات والثقافات والطوائف والأديان، فشلت في إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة تتناوب النخب السياسية حكمها بطريقة سلمية، فقد اختلطت فيها الصراعات ذات الطبيعة السياسية والأيديولوجية بالصراعات ذات الطبيعة العرقية والقبلية والطائفية والدينية، وتعاقبت عليها انقلابات عسكرية وثورات شعبية عديدة، وانتشرت في أرجائها حركات انفصالية مسلحة كثيرة، وخاصة في مناطق دارفور وكردفان والنيل الأبيض وغيرها، بل نجحت إحداها في فصل جنوب السودان فعلا منذ عدة سنوات، ومن ثم تكاد الأبعاد المعقدة والمتشابكة لهذه الصراعات المتداخلة تحيل السودان إلى دولة فاشلة.
فالحكم العسكري الذي هيمن على الحياة السياسية في السودان لما يقرب من 6 عقود، فشل رغم استبداده الواضح في تحقيق الأمن في السودان أو الحفاظ على وحدة ترابه الوطني. أما الحكم المدني الذي لم يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة إلا فترة تقل عن عقد من الزمان، فقد فشل بدوره في إقامة نظام ديمقراطي مستدام، ولا تزال القوات المسلحة والأجهزة الأمنية هي القوة الأكثر ثقلاً وتأثيراً في معادلته السياسية.
ولأن السودان دولة مهمة جداً في العالم العربي، فإن الصراع المسلح الذي يدور فيها حاليا لا يهدد شعب السودان وحده وإنما يهدد مستقبل العالم العربي كله من دون أي مبالغة.
كان السودان، وخاصة قبل انفصال الجنوب عنه، يعد واحداً من أكبر الدول العربية والإفريقية مساحة وما زال، رغم انفصال الجنوب، دولة كبيرة وغنية تحتوي على ملايين الأفدنة من الأراضي القابلة للزراعة والأكثر خصوبة في العالم، بل وينظر إليه باعتباره الدولة العربية الوحيدة القادرة على توفير احتياجات العالم العربي كله من الغذاء، فضلاً عن احتوائه على ثروات هائلة من المعادن والمواد الأولية المهمة، كالذهب والفضة والكروم والنحاس والحديد، والتي لاتزال غير مستغلة إلى حد كبير.
وللسودان أيضاً أهمية استراتيجية كبرى على الصعيد الجيوسياسي، بحكم إطلالته الواسعة على البحر الأحمر وقربه من قناة السويس والقرن الإفريقي ومنطقة الخليج العربي وباب المندب، وهي طرق رئيسية للتجارة والمواصلات العالمية، ما يفسر سهولة تحوّله إلى ساحة للصراع على النفوذ بين القوى العالمية والإقليمية الكبرى.
فإذا أضفنا إلى كل ما تقدم أن السودان، الدولة العضو في جامعة الدول العربية، هو الجسر الأكثر امتداداً داخل العمق الإفريقي، وخاصة دول شرق إفريقيا، لاتضح لنا بصورة أكبر حجم الأهمية الجيوسياسية للسودان بالنسبة إلى العالم العربي ككل. وهنا، تتجلى خطورة الصراع الدائر حالياً، والذي يهدد السودان فعليا بمزيد من التفكك.
فهذا الصراع، بجذوره التاريخية المتشعبة الأكثر عمقاً، له امتدادات إقليمية مؤثرة في العالم العربي. فمن شأن تفكك السودان، لا قدر الله، أن يتيح لإثيوبيا الواقعة عند منابع نهر النيل حرية أوسع للتحكم في تدفق مياه النهر، ما سيشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار القائم حاليا في ليبيا، الجناح الغربي لأمن مصر القومي، وسيمكن تأزم الوضع في السودان «إسرائيل» من مواصلة اختراقها للعمقين العربي والإفريقي بسهولة أكبر، وبالتالي الالتفاف على بعض ما تواجهه حالياً من صعوبات أمنية مستحدثة، ما سيتيح لها حضوراً أكبر وأقوى تأثيراً في المنطقة المتاخمة لباب المندب.
فإذا أضفنا إلى ما كل تقدم أن التفكك المحتمل للسودان سيعرض الاستثمارات الخليجية الكبيرة هناك لمخاطر مؤكدة، لتبين لنا أن العالم العربي بأسره سيكون الخاسر الأكبر من استمرار الصراع الحالي وتفاقمه، والذي يهدد وحدة بلد عربي على هذا القدر من الأهمية.
ولذلك ليس من مصلحة أي عربي استمرار الصراع المسلح الراهن في السودان، والذي قد يؤدي تفاقمه إلى تهديد السودان بالتفكك الفعلي إلى عدة دويلات متصارعة. لذا، على القادة العرب أن يسارعوا إلى عقد اجتماع قمة عاجل بهدف التوصل إلى أرضية مشتركة تسمح ببلورة سياسة موحدة تجاه الأزمة الراهنة في السودان، وتوليد ما يكفي من آليات الضغط لإقناع طرفي الصراع بوقف فوري للقتال المشتعل حالياً، والعمل على جمع كل الأطراف السودانية المعنية حول خارطة طريق واقعية تفضي إلى تحقيق هدفين رئيسيين:
الأول: التوحيد الفوري لقوات الدعم السريع داخل الجيش السوداني تحت قيادة موحدة.
الثاني: بدء مرحلة انتقالية تديرها حكومة تكنوقراط متوافق عليها من جميع الأطراف تناط بها مسؤولية إعداد دستور تجرى على أساسه انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة في أسرع وقت ممكن، باعتبارها السبيل الوحيد لتمكين الجيش السوداني الموحد من التفرغ لأداء مهمته الوحيدة المتمثلة في تأمين البلاد في مواجهة الأخطار الخارجية الكبيرة المحدقة بها.
قد يرى البعض في هذا النوع من الأطروحات مجرد أحلام طوباوية بعيدة المنال وغير قابلة للتحقيق، لكني أعتقد أنها الطريق الوحيد لتجنب أخطار كبرى لا تزال تحاصر عالمنا العربي، وتصر على استمرار حالة الفوضى التي تسوده منذ أكثر من عقد من الزمان.
وفي تقديري إن السودان وشعبه يستحقان من كل العرب أن يبذلوا كل ما في وسعهم لوقف القتال الدائر حالياً، وفتح الطريق نحو تسوية لن يستطيع العالم العربي من دونها أن يواصل طريقه إلى تهدئة الصراعات المشتعلة حالياً في قلبه وعلى أطرافه.
{ أستاذ العلوم السياسية
بجامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك