أعرب المراقبون الغربيون مرارا خلال حرب أوكرانيا عن أسفهم لمواقف العديد من الدول – خارج هيكل التحالف الغربي – نحو الرئيس الروسي، «فلاديمير بوتين»، وتحديداً من حيث كيفية استمرار التعاون السياسي والاقتصادي والأمني مع موسكو.
وعلى الصعيد الدولي، امتنعت دول «الجنوب العالمي» – وهو مصطلح يشير عمومًا إلى الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية – عن فكرة الإدانة العلنية لأعمال موسكو، مع امتناع 35 دولة بالجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت لصالح قرار يُدين هجومها على أوكرانيا في فبراير 2022. ومع تغير هذا الوضع قليلاً بعد مرور عام، أشار «بيتر فرانكوبان»، في مجلة «ذا سبيكتاتور»، إلى أن النظام الجيوسياسي العالمي يميل لصالح الرئيس الروسي، وأن «مهمته الدبلوماسية لبناء العلاقات وتأكيد معتقداته»، ضد الغرب في جميع أنحاء العالم، «قد آتت ثمارها».
وفي حين أن الغرب قد عرض على «أوكرانيا»، مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية والمالية، وقدمت «واشنطن»، وحدها أكثر من 75 مليار دولار، فقد حث «فيليبس أوبراين»، من جامعة «سانت أندرو»، التحالف عبر الأطلسي على الاستمرار في منح «كييف» الأسلحة، التي تحتاج إليها لتحقيق النصر. وبصرف النظر عن الحالات الفردية، مثل توريد طائرات مسيرة مسلحة من قبل «تركيا»، وتعهد «السعودية»، بتقديم 400 مليون دولار لجهود الدعم الإنساني؛ كان التدخل غير الغربي في الحرب محدودا بشكل ملحوظ.
وفي واقع الأمر، كثيرًا ما اتهم النقاد الغربيون حلفاء وشركاء رسميين للولايات المتحدة، بالوقوف إلى جانب روسيا ضد الغرب من خلال الاستمرار في التعامل مع نظام يخضع لعقوبات أمريكية وأوروبية واسعة النطاق، لا سيما مع صدور أمر توقيف من المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيسه؛ بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وأوضح «جوش هولدر»، و«لورين ليذربي»، و«أنطون ترويانوفسكي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن روسيا «تستفيد» من تراجع الدعم العالمي للقيادة الأمريكية. وردًا على موافقة «أوبك»، على خفض حصص إنتاجها من النفط ضد الرغبات الأمريكية في أواخر عام 2022؛ وجه البيت الأبيض انتقادات لأعضاء المنظمة لـ«تحالفهم مع روسيا».
وتعليقا على الغضب الغربي بسبب رفض العديد من البلدان الانضمام إلى جهود عزل روسيا دوليا؛ بيّن «ماتياس سبكتور»، في مجلة «فورين أفيرز»، المنطق الاستراتيجي وراء الإجراءات الحالية من قبل الدول بعدم الانحياز، موضحا أن التصورات الغربية لهذه البلدان تعمل فقط على «المصلحة الاقتصادية»، دون الاكتراث بمصالح غيرها من الدول، وبدلاً من ذلك، فإن القوى المتوسطة الصاعدة، مثل البرازيل، وجنوب إفريقيا، والهند، وإندونيسيا تتشارك جميعًا في رغبة مشتركة «لتجنب الوقوع في نزاع بين الصين وروسيا والولايات المتحدة» في نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وبالنسبة له، فإن محور هذه الديناميكية هو مفهوم «التحوط»، الذي وصفه «جون ألترمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، بأنه «عملية تسعى فيها الدول الأقل قوة إلى التحلي بالذكاء»، و«منح نفسها خيارات عقد شراكات دولية»، بدلاً من الاعتماد على شريك رئيسي واحد للعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية. وبينما رأى «سبكتور»، أن هذه الوسيلة للعلاقات الدولية «ليست استراتيجية جديدة»، فقد اعترف بأن السنوات الأخيرة شهدت «عددًا متزايدًا من الدول المؤثرة في عالم ما بعد الاستعمار «تتبنى مثل هذا النهج؛ لتجنب «الضغط» بشكل أفضل للاختيار بين الكتل الجيوسياسية لكل من الصين، وروسيا، والولايات المتحدة.
ويمنح «التحوط» السياسي والاقتصادي والأمني الدول غير المنحازة، أفضل الوسائل لتعزيز مصالحها الوطنية دون المخاطرة بوضع سقف توقعات بعينها، كما يصاحب التحالفات الرسمية عادةً. وفي حالة «الهند»، على سبيل المثال، فبينما تعرضت لانتقادات كبيرة في الغرب لمساعدتها «موسكو»، على التهرب من العقوبات الاقتصادية المفروضة على صادراتها من الطاقة من خلال تعزيز وارداتها من النفط الأرخص ثمناً من روسيا؛ فقد تبنت حكومتها في الوقت نفسه سياسة رباعية مع الولايات المتحدة، واليابان، وأستراليا للتعاون الأمني في المحيطين الهندي والهادئ، مع نية واضحة لمواجهة التهديد الإقليمي النابع من الصين.
وتبقى مرونة التحوط أمرا بالغ الأهمية في تحليل «سبكتور»، حيث تسعى القوى الصاعدة إلى تجنب «التشابكات المكلفة»، التي يمكن أن تلحق الضرر بعلاقاتها الدولية، بينما تسعى أيضًا إلى «إبقاء جميع خياراتها مفتوحة» للسيناريوهات المستقبلية. وفي شرحه لكيف تريد الدول ذات «الموارد المحدودة» أن «تكون قادرة على تكييف سياساتها الخارجية بسرعة مع الظروف غير المتوقعة»؛ أشار إلى قيام هذه الدول «بتشكيل شراكات ملائمة»، حيال المسائل ذات الاهتمام المشترك – مع «أوبك بلس» يعتبر التجمع النفطي مثالاً بارزًا – ومع ذلك «من غير المحتمل تشكيل تحالفات عامة»، حتى لا يقيدوا أنفسهم عن اغتنام فرص مستقبلية.
وفي المشهد الجيوسياسي الحالي، لا يمكن إنكار انتشار سياسة التحوط. وعلى الرغم من أن حرب أوكرانيا قد أخفقت في تحقيق الأهداف المرجوة لبوتين، مع تواصل القتال بعد أكثر من عام، والذي خلف عشرات الآلاف من الجرحى والقتلى بين المقاتلين الروس؛ فقد أشار «سبكتور»، إلى أنه بالنسبة إلى الدول غير المنحازة «من السابق لأوانه استبعاد استمرار قوة روسيا» على الساحة الدولية. وبينما تبنى العديد من الحكومات الغربية فكرة الهزيمة العسكرية الروسية – بشكل يُمكن أن يؤدي إلى انهيار نظام بوتين – أشار الباحث إلى أن «معظم البلدان في الجنوب العالمي»، ترى في الهزيمة العسكرية الروسية الكاملة أمرا «غير مرغوب فيه»؛ كون تفتت القوة الروسية من شأنه أن «يُحدث فراغًا كفيلاً بزعزعة استقرار دول بعيدة عن أوروبا».
ووجد استطلاع أجراه «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» في فبراير 2023، أن 51% من الهنود يعتقدون أن روسيا «حليف» لنيودلهي، و55% من الأتراك يعتقدون بالمثل أن موسكو «شريك ضروري» لأنقرة. وأيدت «نيروباما راو»، وزيرة خارجية الهند بين عامي 2009 و2011، موقف بلادها لعدم موافقتها على مطالب الغرب بعزل روسيا، وأوضحت أن موقفها المحايد تجاه الحرب «لا يعني أنها تدعم الحرب الروسية»، ولكن بما أن نيودلهي لم تقطع العلاقات مع الولايات المتحدة عندما وضعت عوائق للقانون الدولي في الماضي، فإن «لها كل الحق في اتباع نفس النهج مع موسكو، بغض النظر عما يراه الغرب».
إلى جانب ذلك، وجه «سبيكتور»، اللوم إلى الحكومات الغربية لكونها «تسرعت في رفضها» لمنطق دول عدم الانحياز، تجاه الحياد نحو القوى العظمى. وعلقت «راو»، بأن حكومة «ناريندرا مودي»، «لا تدعم الروايات الأمريكية والأوروبية»، بشأن منافسة القوى العظمى، و«لا تكترث» لدعوات واشنطن وحلفائها لعزل موسكو دوليًا.
وفيما يتعلق بتداعيات الوضع الجيوسياسي عالميا، بالنسبة للولايات المتحدة والتحالف الغربي، حذر «سبيكتور»، من إمكانية أن يؤدي التحوط من قبل دول عدم الانحياز، إلى «تضخيم المنافسة الأمنية»، حيث تلعب الدول دور بكين وواشنطن وموسكو «ضد بعضها البعض»؛ لتأمين أكبر فائدة لأنفسهم، وبالتالي ربما يحتاج الغرب إلى «تقديم المزيد من التنازلات» للشركاء التاريخيين لإبقائهم في معسكره الجيوسياسي.
ومع ذلك، أكد الباحث أن الغرب لا يزال لديه «فرصة للحد» من العلاقات الروسية أو الصينية الأوثق، عبر مراعاته لمصالح الدول الأخرى، وهو ما يقدم «دافعًا» يجعل دول عدم الانحياز «تتبني التغيير». ومع عدم وجود مثل هذا السبيل في تعاملاتهم مع بكين أو موسكو؛ فإن الولايات المتحدة تمتلك ميزة في تعاملها مع دول عدم الانحياز.
وفيما يتعلق بما يجب أن يفعله الغرب «لكسب الحلفاء في عالم متعدد الأقطاب»، فقد حث «سبكتور»، صانعي السياسة على البدء في التعامل مع مخاوف الجنوب العالمي «بجدية أكبر»، مُشيرًا إلى كيف أن «موقفه المتراجع» الحالي تجاه احتياجات الدول الأخرى، ووجهات النظر الاستراتيجية لبقية العالم؛ هو ما يثير العديد من الأزمات، مضيفًا أن «الإجماع التام» على القضايا العالمية، ليس «ضروريًا» لنجاح التعاون في الكثير من المجالات، مشيرا إلى تغير المناخ والتجارة كمحاور خاصة لدفع الحوار.
ومثلما يمثل النظام العالمي متعدد الأقطاب الناشئ، والعدد المتزايد من القوى الوسطى التي تتبنى التحوط وعدم الانحياز «تحديًا» للسياسة الخارجية الأمريكية؛ يجب ملاحظة عدم خلو مثل هذه الاستراتيجيات من المخاطر بالنسبة لمن يتبنونها. ويتطلب اختيار عدم الانحياز في الأزمات الدولية الكبرى «توازنًا دبلوماسيًا» دقيقًا شبه ثابت، لكنه أيضًا يثير مخاطر متمثلة في إثارة غضب كلا الجانبين أثناء الأزمات الكبرى. وفي حالة رفض «البرازيل»، التورط في حرب أوكرانيا على سبيل المثال – في حين أدان رئيسها علانية «انتهاك روسيا لوحدة أراضي أوكرانيا» – أوضح «براين هاريس»، و«مايكل بولر»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أن حديثه عن أن «واشنطن»، «تشجع على استمرار الحرب قد أدى إلى توبيخ لاذع من مجلس الأمن القومي الأمريكي متهمًا البرازيل بـ«ترديد الدعاية الروسية والصينية».
وبالإضافة إلى الحساسية الدبلوماسية؛ فإن موقف عدم الانحياز الاستراتيجي، يعني إمكانية أن تصبح الدولة أكثر عرضة لتنامي التنافس بين القوى العظمى. ورأت «جين بيرليز»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن تنافس «واشنطن»، و«بكين»، للحصول على نفوذ في «إندونيسيا» –التي تعد مركزا عالميا لإنتاج النيكل وتوفر 37% من العرض العالمي عام 2021 – يعني بالتالي أن مواردها المعدنية يمكن أن تصبح دافعًا لزيادة المنافسة الإقليمية بين الأمريكيين والصينيين، مع توقع ممارسة كلا البلدين ضغوطا على «جاكرتا»، للالتزام برغباتهم وردع منافسيهم.
وبشكل عام، حتى لو لم تتأثر البلدان مباشرة بمنافسة القوى العظمى للسيطرة على مواردها الطبيعية والوصول إليها؛ فإن الآثار الضارية للحرب التجارية بين بكين وواشنطن، ستؤدي إلى عرقلة طموحات الدول النامية لتعزيز صناعاتها الخاصة.
في نهاية المطاف، هناك «اختلافات جوهرية»، وراء جميع الديناميكيات –المذكورة أعلاه – فيما يتعلق بعدم الانحياز جيوسياسيا؛ بين الدول الغربية وغير الغربية في تفضيل كل منها لنظام عالمي بعينه. وفي حين يميل المراقبون الغربيون إلى «الفترة أحادية القطب» الأمريكية في أعقاب ما بعد الحرب الباردة؛ ويعتقدون أن النظام العالمي متعدد الأقطاب، هو ما سيؤدي إلى صراع عالمي أكبر وعدم استقرار؛ فقد سجل «سبكتور»، كيف تعتقد الدول غير الغربية أن زيادة تعددية الأقطاب «يمكن أن تكون بمثابة أساس مستقر للنظام الدولي، والحيلولة دون تجاوزات القوى العظمى».
على العموم، يشير المحللون إلى أن اهتمام بلدان الجنوب العالمي «بشكل أكبر بتأثرها بالمناخ، ووصولها إلى التكنولوجيا المتقدمة»، بالإضافة إلى تطويرها «بنية تحتية أفضل، والرعاية الصحية، وأنظمة التعليم»؛ يجعل من السهل تقدير تحوطها، خاصة وأن المنافسة بين القوى العظمى والخيارات الثنائية التي يجلبها هذا الأمر هي معضلات من غير المرجح أن تخدم مصالحهم الخاصة بشكل أفضل.
وفي حين حث «سبكتور»، «واشنطن»، على «التخلي عن توقعها اتباع الجنوب العالمي للغرب تلقائيًا»؛ يبقى أن ننتظر رد فعل إدارات البيت الأبيض الحالية أو المستقبلية على هذا التحول بالسياسة العالمية في الوقت المناسب لإنقاذ العلاقات الطويلة المدى مع الشركاء السياسيين والاقتصاديين والأمنيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك