خلق الله الإنسان، وباقي الكائنات، ومنحه من الحواس ما يمكنه من استشعار الأخطار ليميز بين الصحيح والسقيم والغث والسمين في بيئته والتعرف على المصالح فيما يواجهه من مواقف وفرص وتحديات ويتخذ ما يناسب من قرارات. في الحياة الحديثة أصبحت الصحافة جزءا من جهاز الاستشعار في المجتمع والدولة، تقوم بهذا الدور وتحمي الدولة والمجتمع من المفاجآت وتبرز مواطن الخلل والإخفاق وتدعو إلى الإصلاح والتقويم. والصحافة الحرة هي أهم جزء في منظومة الاستشعار هذه التي تطورت مع حاجة الإنسان والمجتمعات للرأي والرأي الآخر وثراء الحوار وما يمثله من نقد وتصويب لمسيرتها نحو رؤيتها وتقدمها.
بذلك تكون حرية الصحافة رئة الدولة وروح الإصلاح ومصدر احترام الحقوق وسيادة القانون، وهي المرشد في التقدم وتجاوز الأخطاء والاخطار وتفادي الصراعات وتصحيح المسار في أي نظام ديمقراطي، وتوفر النور الذي يهتدي به المجتمع في مسيرته. بدون حرية الصحافة ينطفئ النور وتتعثر الأمة وتسقط الدولة أخلاقيا وتنمويا، كما سقطت إمبراطوريات ودول عبر التاريخ. وبمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة نقدم التحية والتقدير لكل من يتصدى لضمان حرية الصحافة والحق في الكلمة الصادقة والمعلومة الموثوقة.
في 3 مايو من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة، لم يختلف هذا العام ولكنه جاء وسط صراع مدمر في السودان وغيره من الدول العربية. يقول الأمين العام للأمم المتحدة «لا حرية في العالم بدون حرية الصحافة». ونضيف لا أمن واستقرار ولا تقدم وازدهار بدون حرية الصحافة. السؤال إلى أي حد هناك علاقة بين حرية الصحافة والصراعات الدامية في الدول النامة ومنها دول عربية كثر؟
بالرغم من ذلك، فإن حرية الصحافة تعاني في معظم دول العالم. فخلال 2022 تم قتل 86 صحفيا أثناء العمل. يضيق صدر السلطات بما تطرحه الصحافة عن الأوضاع الداخلية وعلاقاتها الخارجية ومناقشة القرارات السياسية والأداء الاقتصادي والاجتماعي.
لا يقتصر التضييق على الدول النامية بل إن بعض الدول المتقدمة تُخضع الصحافة وحرية الرأي فيها للمضايقات. عبر عن ذلك الأمين العام للأمم المتحدة إذ يقول: «لا حرية في العالم بدون حرية الصحافة وهي شريان الحياة لحقوق الإنسان». في كلمته بهذه المناسبة بين الأمين العام للأمم المتحدة طبيعة الهجوم على حرية الصحافة وندد بحكومات ومؤسسات أهلية وشركات كبرى تفرض رؤيتها وتحمي مصالحها بالضغط على الصحافة وتطمس الحقائق وتحتكر مصادر المعلومات وتمنعها عن مجتمعاتها. حتى وسائل التواصل الاجتماعي تم إخضاعها للرقابة والتضييق، إذ ترتفع وتيرة التضييق مع نشوب الحروب والاضطرابات.
التضييق على حرية الصحافة وحق الحصول على المعلومات له أضرار ليست فقط في القدرة على المحاسبة والرقابة وتصحيح المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنه كذلك يضر بالقدرة على معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالمجتمع الذي يعجز عن معالجة مشاكله من خلال أبحاث حرة تستند إلى معلومات موثوقة وحرية البحث والنشر، لن يتمكن من تحقيق أهدافه والارتقاء بجودة الحياة فيه. والدولة التي لا تستطيع ان تناقش قضاياها بحرية وبناء على معلومات صحيحة تتفاقم فيها المشاكل إلى ان تصبح غير قابلة للعلاج. هذا كان سببا في انهيار الكثير من الامبراطوريات والدول على مر التاريخ.
تبرز اهمية حرية الصحافة في مؤشر اقتصاد المعرفة، يتكون المؤشر من سبعة عناصر من بينها «البيئة التمكينية». يشمل هذا العنصر بالإضافة إلى «حرية الصحافة» استقلالية القضاء، جودة الإطار التنظيمي، فعالية الحكومة، والاهم الاستقرار السياسي وغياب العنف والإرهاب. هذه جوانب مهمة ومؤثرة في اكتساب المعرفة ونشرها وتوطينها وتوظيفها. وهي التي تُوجِد البيئة المؤسسية المناسبة للبحث والتطوير والابتكار، وخصوصا في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. أي ان حرية الصحافة عنصر مهم في بناء القدرات الاقتصادية والابتكارية والإبداعية والريادية، وهي مؤشر أساسي في التحول نحو اقتصاد المعرفة والتنمية الاقتصادية.
حرية الصحافة اذا، تعبر عن حيوية المجتمع كعنصر أساسي في مسيرة التقدم والازدهار، بالإضافة إلى مساهمتها في تكوين الرأي العام الداعم للانفتاح والشفافية ونشر مختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعبر عن فعالية الحكومات في إدارة الاقتصاد والحياة العامة ورفع مستوى المعيشة وتحسين جودة الحياة.
كما تبرز أهمية حرية الصحافة في مؤشر الابتكار العالمي حيث يقول إن الأداء الوطني في الابتكار لكل دولة يتطلب تشجيع قيم الانفتاح السياسي وحرية الصحافة لتحفيز الابتكار، بالإضافة إلى الالتزام بيسر المشاركة الفاعلة في مؤسساتها ومنظماتها واستثمارها في التعليم.
الخلاصة ان الدول والمجتمعات، كمنظومات إنسانية مفتوحة، بحاجة ماسة إلى نظام استشعار تهتدي به في رؤيتها التنموية. الصحافة الحرة وتفاعل الحكومات والمجتمعات معها ودعمها يُمكِّنها من القيام بدورها في التقصي والبحث لتكون عنصرا فعالا في حماية المجتمع والدولة والمساهمة في تحقيق رؤيتها. بدون حرية الصحافة تتراجع الحقوق والحريات العامة وتدخل الدولة والمجتمع في منحدر التخلف الاقتصادي والفكري والسياسي.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك