من المعلوم أن النفط الخليجي قد غدا شريكًا أساسيًّا في صناعة الصعود الاقتصادي الآسيوي، فيما قابل تدفقه إلى هذه الأسواق تدفقًا من السلع الآسيوية إلى الأسواق الخليجية، كما أخذت الاستثمارات المعززة لهذه التجارة تتزايد في ظل سعي طرفي العلاقة إلى وضعها في سياق علاقات تعاون استراتيجية لا تقل عن اتفاقيات للتجارة الحرة.
ومنذ انطلاقه عام 2004، يعمل منتدى التعاون بين الصين والدول العربية على تعزيز هذا الاتجاه. ويقف على متابعة تطوير علاقات التعاون الخليجية الآسيوية؛ كثافة الزيارات المتبادلة على كل المستويات، ولهذا لم يكن غريبًا أن تتولى بكين، نهج المصالحة بين إيران والمملكة العربية السعودية، وأن تنجح في هذا المسعى.
ويرجع دور الخليج في صناعة الصعود الاقتصادي الصيني -حتى صارت الاقتصاد الثاني في العالم- إلى الرئيس دينج هيسياو بينج، الذي أدرك أن هذا الصعود يقتضي مصدرا موثوقا وآمنا، للطاقة، وهو دول مجلس التعاون الخليجي، الغنية بها، والتي يمكن أن تشكل حصة الأسد في واردات بلاده من النفط والغاز والبتروكيماويات. وعليه، سعى منذ عام 1978 إلى بناء علاقات سياسية قوية مع هذه الدول، نتج عنها تطور في العلاقات الاقتصادية لتصبح الصين في عام 2020، أكبر شريك تجاري لمجلس التعاون الخليجي، ولتحل في ذلك محل الاتحاد الأوروبي.
وفي تأييد لهذا، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والسعودية في عام 2022، (115 مليار دولار)، فيما تجاوز حجم التبادل التجاري في العام نفسه بينها وبين الإمارات (99 مليار دولار)، ومع الكويت أكثر من (20 مليار دولار)، وبينها وبين قطر أكثر من (18 مليار دولار)، ومع سلطنة عُمان (8.3 مليارات ريـال عُماني)، ومع البحرين أكثر من (ملياري دولار).
وفي ديسمبر 2022، أشار بيان مؤتمر الرياض، بين الصين ودول مجلس التعاون في فقرته الرابعة إلى ضرورة تنمية التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والطاقة والمالية والتكنولوجيا، واستكمال مفاوضات منطقة التجارة الحرة، وتسجل الموازين التجارية الخليجية مع الصين فائضًا، الأمر الذي دعا الأخيرة إلى العمل على زيادة صادراتها واستثماراتها في الخليج. علاوة على ذلك، فبعد أن فرضت الولايات المتحدة، قيودًا على حصول السعودية على تكنولوجيا تصنيع بعض الأسلحة كالصواريخ الباليستية، قدمت بكين، للرياض مثل هذه التكنولوجيا، خاصة أن دول المنطقة تصدر إليها 42% من إجمالي احتياجاتها النفطية.
ويعزز هذا التوجه انفتاح الصين على تصدير التكنولوجيا والمعرفة، وعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول. وتسهم شركة هواوي الصينية العملاقة في تطوير شبكات الهاتف (5G) في أغلب دول الخليج، فضلا عن تطوير مركز جديد للمعلوماتية في السعودية سيكون الأكبر في المنطقة، كما أعلنت شركة علي بابا الصينية، شراكة مع مجموعة أس تي أس السعودية في مجال الحوسبة السحابية، وقد بلغ حجم الاستثمارات الصينية في السعودية من 2005 حتى 2020 نحو 40 مليار دولار، أي نحو 20% من إجمالي استثمارات الصين في العالم العربي البالغة نحو 197 مليار دولار، وارتفعت هذه الاستثمارات إلى 43.5 مليار دولار في 2021.
وتُعدّ الصين، ثالث أكبر مستثمر أجنبي في الإمارات على المستوى العالمي برصيد بلغ (9.3 مليارات دولار) حتى مطلع 2021، فيما بلغ حجم الاستثمارات المتبادلة بين البلدين حتى هذا التاريخ نحو (12 مليار دولار). أما الاستثمارات الكويتية في الصين فتبلغ أكثر من (10 مليارات دولار)، وحلت بكين في المرتبة الرابعة عالميًا بين أكبر المستثمرين في الكويت برصيد بلغ نحو (2 مليار دولار)، كما اشترى جهاز قطر للاستثمار حصة بنحو 13% في البنك الزراعي الصيني، الذي يعد من أكبر البنوك في البلاد.
يقابل هذا أن حجم الاستثمارات السعودية في الصين يقترب من (100 مليار دولار)، وهو رقم وإن كان يتزايد، لكنه يقل كثيرًا عن حجم استثماراتها في الولايات المتحدة البالغ (800 مليار دولار)، وفي إطار زيارة الرئيس الصيني شي بينج للسعودية، وقعت شركات صينية 34 اتفاقية استثمارية في مجالات؛ الطاقة الخضراء، والهيدروجين الأخضر، والطاقة الشمسية الكهروضوئية، وتقنية المعلومات، والخدمات السحابية، والنقل والخدمات اللوجستية، والإسكان ومواد البناء.
من ناحية أخرى، تحتل اليابان، مكانة متميزة في العلاقات الاقتصادية الخليجية. وبلغ حجم الصادرات الخليجية لليابان نحو (53.6 مليار دولار) في عام 2020، مقابل واردات بلغت (17.3 مليار دولار)، ليميل الميزان التجاري لصالح المجموعة الخليجية، بفائض يبلغ نحو (36.4 مليار دولار)، فيما كان الاقتصادان السعودي والإماراتي الأكثر جذبًا للاستثمارات اليابانية، وحازا على نحو 78% من رصيد استثماراتها في الشرق الأوسط البالغة نحو (8.8 مليارات دولار)، في حين بلغ رصيد الاستثمارات الإماراتية في اليابان قرابة (441 مليون دولار).
وفي واقع الأمر، انتهجت اليابان مع مجلس التعاون الخليجي دبلوماسية نفطية تحرص على التواصل معها في كل الظروف، خاصة مع السعودية والإمارات وسلطنة عُمان، وكانت حريصة على إرسال وحدات من قوات الدفاع الذاتي البحرية لدعم الأمن البحري في منطقة الخليج، خاصة وأن الطاقة لديها تعتمد على هذه المنطقة؛ بواقع (46% من السعودية، و30% من الإمارات، و8% من قطر، و6% من الكويت). وفيما وقعت أبو ظبي، مع طوكيو، اتفاقية تعاون استراتيجي في 2020 تسمح للأخيرة بتخزين 8 ملايين برميل من الخام الإماراتي، كان هناك اتفاق مشابه مع الرياض، كما تستثمر مجموعة الهندسة اليابانية شيودا نحو (13 مليار دولار) في تطوير معامل الغاز المسال في قطر، مع توقع اكتمال المشروع بين عامي 2025-2027.
ودعما لهذه الخطوات، استوردت طوكيو، من الرياض، في سبتمبر 2020، الشحنة الأولى من الأمونيا الزرقاء لتوليد الطاقة الكهربائية. وفي يناير 2021 توصلت إلى اتفاقية التعاون الأولى في مجال الأمونيا مع شركة النفط الوطنية في أبوظبي، فيما وقعت أكبر مصفاة في اليابان في مارس 2021، اتفاقا مع شركة أرامكو لتطوير هيدروجين خال من الكربون، وسلسلة تزويد الأمونيا، لمساعدة خطواتها لإنتاج الهيدروجين واستخدامه في قطاع النقل، وعليه، غدت أكبر مستوردي النفط والغاز من أدينوك عالميًا.
وكجزء من الشراكة الشاملة، حددت اليابان مجالات جديدة للتعاون، وأخذت من رؤية السعودية 2030 بوصلة لشراكة استراتيجية جديدة. ومع إطلاق هذه الرؤية في 2017 قام العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، بزيارة هي الأولى لليابان من 50 عاما، وقع خلالها عدة اتفاقات متوجهة صوب تطوير التعاون في ثلاثة مجالات؛ هي التنمية المستدامة، التكنولوجيا، المجتمع والثقافة، كما أطلقت مجموعة سوفت بنك اليابانية مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي صندوق الرؤية بقيمة (100 مليار دولار).
وبالتعاون بين الإمارات واليابان تم إطلاق القمر الصناعي خليفة سات -كأول قمر صناعي من إنتاج الإمارات- من مركز الإطلاق في اليابان. ومن نفس هذا المركز تم إطلاق مسبار الإمارات لاستكشاف المريخ عام 2020 باستخدام صاروخ ياباني، فيما تجاوز عدد السياح اليابانيين للإمارات 100 ألف سائح لأول مرة في 2018. وفي عام 2016 تعاونت مؤسسة الخليج للاستثمار مع بنك ميزو هوه الياباني وبنك نورنشو كين للاستثمار من أجل إطلاق صندوق الغذاء الخليجي الياباني، لدعم الغذاء والأعمال الزراعية في دول الخليج.
علاوة على ذلك، تعاونت اليابان أيضًا مع صندوق الاحتياطي العام للدولة في سلطنة عُمان وصندوق الأسهم الخاصة في الإمارات. وخلال زيارة وزير الاقتصاد والصناعة والتجارة الياباني للرياض ومسقط في ديسمبر 2022، تم توقيع عدد من الاتفاقات في مجال الاقتصاد الدائري للكربون، وإعادة تدوير المخلفات والأمونيا ومشتقاتها، فضلا عن مجال النفط والغاز الطبيعي والطاقة النظيفة.
ومن جانب مشابه، تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي، أكبر شريك تجاري للهند. وفي اجتماع كبار المسؤولين في مارس 2023 اتفق الجانبان على إنهاء اتفاقية التجارة الحرة بشكل سريع، كما بلغ حجم الجالية الهندية في منطقة مجلس التعاون قرابة 8.5 ملايين شخص. وفي عام 2022، قفزت التجارة بين الجانبين من (87.3 مليار دولار)، إلى (154.6 مليار دولار)، مسجلة زيادة قدرها 77%، حيث يميل الميزان التجاري لصالح المجموعة الخليجية، التي تسهم بنحو 35% من واردات الهند النفطية و70% من وارداتها من الغاز، وفيما يقدر حجم التجارة المتبادلة بين الهند والإمارات بـ(59 مليار دولار)، فقد أقبل البلدان على توقيع اتفاق شراكة اقتصادية شاملة لتعزيز التجارة والاستثمار.
وتُعدّ الإمارات، ثالث أكبر شريك تجاري للهند بعد الصين والولايات المتحدة، وثالث أكبر وجهة للصادرات الهندية، فيما تأمل أن يرتفع حجم تجارتها غير النفطية مع الهند إلى أكثر من (100 مليار دولار) في غضون خمس سنوات. وقبل نهاية عام 2022، أعلنت نيودلهي، إمكانية تأسيس تبادل تجاري بينها وبين الرياض بالعملتين المحليتين الريـال والروبية، وكان ذلك بمناسبة اجتماع مجلس الشراكة الاستراتيجية الهندي السعودي، فيما أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال زيارته للهند في فبراير 2019 أن المملكة ستستثمر (100 مليار دولار) هناك.
أما بالنسبة إلى كوريا الجنوبية، فقد انطلقت عدة جولات لبحث مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بينها وبين مجلس التعاون الخليجي، كان آخرها الجولة السابعة التي انعقدت في فبراير 2023. وتمثل واردات كوريا الجنوبية من المجموعة الخليجية أكثر من 80% من إجمالي التجارة بينهما عام 2019، بقيمة بلغت نحو (58 مليار دولار)، تمثل أكثر من 11.5% من إجمالي واردات كوريا، فيما بلغت صادرات الأخيرة لدول المجلس (9.4 مليارات دولار) في العام نفسه، أي إن الميزان التجاري يميل لصالح الكتلة الخليجية.
وتمثل الصادرات الخليجية نحو 73% من واردات سول النفطية، و46% من وارداتها من الغاز الطبيعي المسال. وتمتلك أرامكو السعودية بالكامل شركة أس أويل الكورية، وفيما بلغ عدد مشروعات الاستثمارات الكورية في السعودية 132 مشروعًا، بقيمة (3 مليارات دولار)، فقد أخذت بوصلة الاستثمارات السعودية تتجه نحو كوريا، وتعمل أرامكو السعودية في كوريا من خلال أربعة مشاريع، وشركتين باستثمارات تتجاوز (5 مليارات دولار)، يضاف إليها (7 مليارات دولار) أخرى في اتفاقية لتطوير أضخم وحدة تكسير بخاري للبتروكيماويات. وتستثمر شركة سابك في كوريا بمشروع واحد وشركة واحدة بحجم استثمارات مليار دولار، وفي مجال البلاستيك هناك مشاريع مشتركة بحجم استثمارات (168 مليون دولار).
على العموم، فإن هذا التوجه الشرقي للاقتصاد الخليجي يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية، مرحلة سماتها الرئيسية الصعود الاقتصادي الآسيوي من أجل الرخاء المشترك، تحتل فيها المجموعة الخليجية مكان الشريك الرئيسي في صناعتها وجني ثمارها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك