قضايا عديدة تثيرها الصراعات التي تهدد الدولة الوطنية ككيان موحد ومن بينها الجدل حول التدخل الخارجي من عدمه وخاصة تلك التي تشهدها بعض الدول العربية، وواقع الأمر أن المسألة ليست من البساطة بمكان بحيث يتم إصدار تصورات حدية بمعنى التدخل أو عدم التدخل وهو أحد موضوعات السجال الفكري بين الباحثين خلال الأزمات ولكن يرتبط التدخل الخارجي في الصراعات بمحددات كثيرة، إلا أن التساؤل المهم كيف تبدو الصورة الأكبر من أقصى التدخل إلى أقصى الانحسار الدولي عن الصراعات، بمعنى آخر كيف يمكن قراءة الحالات السابقة لكلا الأمرين بما فيهما من إشكاليات وذلك هو جل المقال.
بداية ينبغي تأكيد ثلاثة أمور مترابطة بشأن تلك الصراعات أولها: إن عديدا من الصراعات التي تشهدها بعض الدول العربية في الوقت الراهن وخاصة تلك التي تتخذ طابعاً مسلحاً ترتبط على نحو وثيق بعدم الاتفاق بين أطراف العملية السياسية على أهداف وآليات لطبيعة المرحلة الانتقالية نحو حقبة سياسية جديدة، صحيح أن بعض الدول نجحت في ذلك إلا أن البعض الآخر لم يستطع إدارة تلك المرحلة وتحديد مدى زمني لها، وثانيها: إن الصراعات التي شهدت تدخلات خارجية ازدادت تعقيداً بالنظر إلى تعارض مصالح الأطراف الخارجية وتباين تصوراتها بشأن عملية الانتقال إلى مرحلة جديدة، وثالثها: إنه بالرغم من وجود أطر سياسية يتم الاتفاق عليها بين أطراف العملية السياسية والتي تتضمن ترسيخ آلية الحوار فإن الاحتكام للسلاح كان حاضراً وبقوة عند احتدام الخلاف وخاصة من جانب جماعات مسلحة ضد الدولة التي لها فقط حق احتكار استخدام القوة للحفاظ على أمن الدولة ومواطنيها.
ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً لابد من التفرقة بين حالات التدخل الخارجي في الصراعات الداخلية أو تلك التي تكون بين الدول، ففي الحالة الأولى كانت هناك حالات ضرورة لذلك ومن بينها الحالة الليبية عام 2011 عندما بدأ النظام الليبي السابق في استهداف المدنيين بالطائرات وهو أمر كان عليه إجماع إقليمي وعالمي بضرورة توفير الحماية لهؤلاء فكان قرار جامعة الدول العربية بمطالبة مجلس الأمن الدولي الاضطلاع بمسؤولياته بما يضمن حماية هؤلاء المدنيين وإقامة مناطق حظر جوي للطيران العسكري وإقامة مناطق آمنة في المناطق التي تتعرض للقصف وهو ما كان محل استجابة سريعة من مجلس الأمن الذي أصدر قرارين في هذا الشأن وفقاً للفصل السابع من الميثاق وكانت القرارات الإقليمية والدولية مرجعاً لتدخل حلف شمال الأطلسي «الناتو» للإطاحة بالنظام الليبي آنذاك، فضلاً عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وعلى صعيد الصراعات بين الدول كانت هناك حالتان الأولى: تأسيس إدارة الرئيس ريجان تحالف الراغبين لمواجهة الاعتداء على ناقلات النفط الخليجية خلال الحرب العراقية – الإيرانية، والثانية: قيادة الولايات المتحدة تحالفاً دولياً عام 1991 مكونا من 34 دولة لتحرير دولة الكويت من الغزو العراقي.
ومع أهمية ما سبق فإن هناك ثلاثة تساؤلات منطقية تطرح ذاتها، الأول: ما أسس التدخل الخارجي؟ بمعنى آخر هل توجد معايير ثابتة ومحددة للتدخل الخارجي أم أن الأمر يرتبط بطبيعة الصراعات ومصالح الأطراف الخارجية؟ والثاني: هل أدت التدخلات الخارجية إلى إنهاء الصراعات وتحقيق مفهوم الدولة الوطنية الموحدة وكذلك الأمن الإقليمي؟ والثالث: هل يمكن إصدار أحكام عامة بشأن التدخل أو عدمه حول الصراعات كافة؟
وواقع الأمر أنها تساؤلات شائكة ولكن بشكل موجز لم تكن هناك أسس ثابتة للتدخلات الخارجية في الصراعات، صحيح أن العالم ارتضى تأسيس منظمة أممية منوط بها إصدار القرارات ذات الصلة بالتدخل العسكري وفقاً للفصل السابع من الميثاق ولكن لم يرتبط ذلك بتطبيق آليات الأمن الجماعي التي تقضي بتشكيل قوة عسكرية خاصة بالأمم المتحدة تكون تحت تصرفها للتدخل في الصراعات التي ترى أنها تمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وفي ظل ما شهده النظام العالمي من تحولات سواء خلال حقبة الحرب الباردة أو ما بعدها فإن التدخلات ارتكز بعضها على قرارات أممية مثل ليبيا عام 2011 وبعضها أضفت القرارات الأممية الشرعية على التدخل من دون قرارات مثل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما بين هذا وذاك حدد حلف الناتو مرتكزات ثلاثة لتدخله في الصراعات وهي وجود قرار أممي يتيح للجهات الدولية التدخل وحتمية إجماع كل دوله الأعضاء على ذلك التدخل وأخيراً طلب الجهة المعنية التدخل من خلال خطاب به التزامات محددة، بل إن الأمر اللافت هو عدم تناسب حجم التدخل مع الظاهرة محل التهديد ومن ذلك على سبيل المثال التدخلات الدولية لمواجهة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي عام 2008 حيث أرسل حلف الناتو سفنا بحرية كبيرة الحجم لا تتناسب ومطاردة الزوارق الصغيرة السريعة للقراصنة.
وللإجابة عن التساؤل الثاني فإن الأمر ربما يحتاج إلى أكثر من رأي بمقال حيث إن الصورة تتحدث عن ذاتها وخاصة في المشهدين السوري والليبي، ففي الحالة السورية من الصعب الحديث عن إنهاء الصراع من دون المرور عبر ثلاث دوائر متداخلة ومعقدة بشكل كبير من بينها التدخلات الإقليمية التي طالت سيادة سوريا على أراضيها، فضلاً عن الوجود العسكري الروسي في سوريا، وعلى الصعيد الليبي فإن الانقسام الحاد بين المكونات الوطنية جزء منه يرتبط بتدخلات خارجية سواء مع هذا الطرف أو ذاك، وإذا كانت تلك هي العوارض فلا يجب ألا نغفل الجذور وهي تأثير التدخلات الخارجية على مسار ومضامين الصراعات الداخلية.
ووصولاً إلى الإجابة عن التساؤل الثالث فلا شك أن التوصيف الصحيح للصراعات سواء الداخلية أو ما بين الدول يحدد جدوى التدخل من عدمه والذي ربما يكون ضروريا سواء لحماية المدنيين أو الحفاظ على منع انهيار دولة تقع في منطقة مضطربة بما يعنيه ذلك من انهيار منظومة الأمن الإقليمي برمتها وما يعنيه ذلك من تداعيات بالنسبة إلى الأمن العالمي، وبشكل أكثر تحديداً لابد من وجود قناعة لدى المجتمع الدولي سواء كدول كبرى أو منظمات أممية بحماية مفهوم الدولة الوطنية الموحدة وإعادة التأكيد مجدداً أن الدولة فقط هي من يحتكر استخدام القوة لحماية مواطنيها ومصالحها وبالتالي أي حمل للسلاح من جانب أطراف أخرى داخل الدولة أمر يجب مواجهته وعدم مساواة تلك الأطراف بالدولة ذاتها لسبب بسيط مؤداه أن الصراعات المسلحة من هذا النوع ترتكز على معادلة صفرية أي تصور طرف ما أن المكاسب التي يحققها يجب أن تكون خسارة حتمية للطرف الآخر والنتيجة حتماً ستكون كارثية.
والخلاصة إنه إذا كانت هناك أسباب داخلية للصراعات فإن تأجيجها يرتبط بالتدخل الخارجي الانتقائي غير المحسوب.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك