من مفاتيح الشخصية العمرية لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) تعاهد نفسه بالنقد الذاتي، ولا ينتظر نقد الآخرين له، لأنه يعلم أن المسلمين قد يهابونه، فلا يفصحون عن رأيهم فيما يأخذه من قرارات لهذا فهو يبادر من تلقاء نفسه إلى تشجيعهم على نقده، ورفع أصواتهم بالاعتراض على بعض سياساته، ونحن نعلم، بل معظمنا يعلم أن عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) جمع بين العلم والفقه والجرأة على الاجتهاد، ولقد اجتهد في عام الرمادة حين أوقف حد السرقة لشبهة أن الناس قد يسرقون لحاجتهم إلى الطعام، وهو عام اشتدت فيه المجاعة على الناس، وضاقت عليهم الأرزاق، فجيء إليه بغلمان سرقوا ناقة لأحد المسلمين، ولما أراد أن يقيم حد السرقة عليهم تبين له أن سيدهم لا يطعمهم، ويضيق عليهم الأرزاق، فقضى على سيدهم أن يدفع لصاحب الناقة ضعف ثمنها، وأقسم عليه أن يقيم عليه الحد إذا اضطر غلمانه إلى السرقة بسبب الجوع.
إذًا، فعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لم يعطل حد السرقة لأنه ليس له ذلك، ولا يجرؤ عليه لكنه رضي الله عنه اجتهد في فهم النص، وأنه عند الضرورات تباح المحظورات، وهذه قاعدة فقهية، وهذه القاعدة لها أصل وثيق في القرآن الكريم في قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) البقرة / 173.
إني أرى النقد الذاتي الذي يحرص عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أحد مفاتيح هذه الشخصية الملهمة والتي تهاوت أمامها حصون الذات العمرية وقلاعها، وهذا المفتاح العمري هو الذي شجع المسلمين في غير هلع ولا هيبة أن يوجهوا إليه النقد حين يرون في بعض ما يصدره من قرارات أو اجتهادات وأنه يخالف بعض ما استقر عندهم مما تعارفوا عليه، حتى يتبين لهم وجه الصواب فيما أمرهم به، أو فيما نهاهم عنه.
ولقد اشتهر عنه رضي الله عنه نقده لنفسه، وتقريعه لها قبل أن ينقده الآخرون، روى الأحنف قال: «كنت مع عمر بن الخطاب، فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعدني على فلان، فإنه قد ظلمني، فرفع الدرة فخفق بها رأسه، وقال: تدعون أمير المؤمنين وهو يعرض لكم حتى إذا شغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني!).
فانصرف الرجل وهو يتذمر، فقال عمر: عليَّ بالرجل فألقى إليه المخفقة وقال: امتثل! (أي اخفقنا كما خفقتك، فقال: لا والله ولكن أدعها لله ولك).
فقال: ليس هكذا، إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده، أو تدعها لي. قال: أدعها لله (أخبار عمر / الشيخ علي الطنطاوي / 324 ).
ورغم أن هذا الأمر من عمر هو في مصلحة جماعة المسلمين إلا أن ذلك يجب ألا يشغله عن المسلم(الفرد) لكنه رغم كل ذلك إلا أنه استعظم ذلك منه، وأخذ يقرع نفسه، ويلومها أشد اللوم، يقول الأحنف: (فانصرف ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فصلى ركعتين وجلس يقول: يا ابن الخطاب! كنت وضيعًا فرفعك الله، وكنت ضالًا فًهداك الله، وكنت ذليلًا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ يقول الأحنف: فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة حتى ظننا أنه خير أهل الأرض) نفس المصدر السابق ص 325.
ونادى يومًا الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس لقد رأيتني وأنا أرعى على خالات لي من بني مخزوم فكنت أستعذب لهن الماء فيقبضن القبضتين من التمر أو الزبيب ثم نزل! فقال له عبدالرحمن ابن عوف: ما أردت إلى هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: ويحك يا ابن عوف خلوت بنفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين وليس بينك وبين الله أحد، فمن ذا أفضل منك، فأردت أن أعرفها قدرها) أخبار عمر / الشيخ علي الطنطاوي / 325.
كان رضي الله عنه هذا ديدنه، وكان شديد المحاسبة لنفسه، ودائمًا يذكرها بقدرها ومكانتها بين الناس، ولا يجد رضي الله عنه أدنى غضاضة في أن يتذكر ويذكر أحواله قبل الإسلام، وقبل الخلافة، وأحواله بعدهما حتى لا يغتر ويحمله هذا الغرور على التعالي على الناس.
وبسبب نقده الدائم لذاته رضي الله عنه اشتهر بين حكام عصره، وسوف يكون أكثر شهرة في من يليهم من الحكام، إن عمر (رضي الله تعالى عنه) حكم نفسه، فانحكم له الناس، وصدقت فيه مقولة رسول كسرى (ملك الفرس) حين أرسله يستطلع أحواله، فلما رآه نائمًا في ظل جدار، متوسدا التراب، قال قولته المشهورة: «حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت يا عمر!».
لقد كانت مواقفه مبادئ أخلاقية يضرب بها المثل، وإليكم واحدًا من هذه الأمثلة حين استدعى عامله على مصر وابنه إلى المدينة بسبب ما قام به ابنه حين ضرب الشاب القبطي الذي فاز عليه في السباق، ولما اقتص القبطي من ابن الوالي، قال عمر: انزل بالسوط على صلعة أبيه، فلولا سلطان أبيه ما فعل ما فعل، فاعتذر القبطي بأنه قد اقتص ممن ضربه، ثم التفت عمر إلى عمرو بن العاص، وقال له: «يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !».
نعم.. إنه الفاروق الذي فرق الله تعالى به بين الحق والباطل، كذلك قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقال عنه عليه الصلاة والسلام أيضًا: إن الحق على لسان عمر وقلبه»، وقال عنه كذلك: «لو سلك عمر فجًا لسلك الشيطان فجًا غيره».
ولقد عز المسلمون بإسلام عمر (رضي الله عنه) روى البخاري عن عبدالله ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) أخبار عمر / الشيخ علي الطنطاوي / ص 24.
وقال ابن مسعود عنه أيضًا: «كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة؛ لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا» المرجع السابق / 24.
هذا هو أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه).. فاروق هذه الأمة.. هذا هو حاله، بل هذه هي أحواله مع نقده الذاتي لنفسه قبل أن يكون لعماله وللمسلمين، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجمعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام في مستقر رحمته إن شاء الله تعالى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك